أفكَار

في مميزات المذهب المالكي المميزة وخصائص المحيط الحاضن

ورقة علمية تبحث في تاريخ وكيفية انتشار المذهب المالكي في تونس (الأناضول)
يمكن أن نصف إفريقية قبل ظهور المذهب المالكي حتى القرن الخامس للهجرة بالإقليم القلق عقائدياً. وتعني "إفريقية" في كتابات المؤرخين بلدان المغرب الكبير، وفي كتابات أخرى تونس الجزائر أو تعني مدينة القيروان تحديداً، أما في مقالتنا فنريد بها ما يغلب على استعمالها عند المؤرخين، فنقصد البلاد التونسية اليوم تقريباً. ونصفها بالإقليم القلق لعدم استقرارها على مذهب بعينه، لأسباب كثيرة ستأتي ورقتنا على ذكرها، وهي تعمل على البحث في سيرة هذا المذهب الذي يسود اليوم بالبلاد التونسية ويمنحها صفاءها العقائدي.
ولئن ردّ البعض رسوخ هذا المذهب إلى نجاح الإمام مالك بن أنس، عالم المدينة، في تلطفه مع طلبته المغاربة رغبة منه في استدراجهم لينشروه في بلدانهم، فإن ورقتنا ترى غير هذا الرأي. فالفكر، عامة، سواء تعلق الأمر بالفلسفات أو المذاهب الأربعة يظل وفق مصادرات علم الاجتماع منتجا بشرياً، يخضع لقوانين المنتجات المادية نفسها. ولابدّ له ليسود أو لينتشر في محيطات جديدة من شروط تتعلّق به في ذاته مثل الصلابة والقدرة على التغير ليتلاءم مع ما يطرأ من الظروف الجديدة أو تتعلّق بطبيعة الفضاء الذي يتنزّل فيه.
ضمن هذا الأفق تطرح سلسلة مقالاتنا هذه سيرة المذهب المالكي في إفريقية، فتتوقف عند المفاهيم الكبرى المؤسسة له التي جعلته يختلف عن المذاهب الأخرى وتبحث في مكونات الحياة العقدية في إفريقية، باعتبارها المحيط الجديد الذي سيحتضن هذا الفكر.

أ ـ في مميزات المذهب المالكي عن غيره من المذاهب:
لقد استقصى أتباع مذهب الإمام مالك مدونته الفقهية واستنبطوا منها الأصول التي وجهت أحكامه وقال فيها الباحثون وأطالوا. ولكن لطبيعة ورقتنا التي تنشد الخزل والإجمال، سنحاول أن نقف عند خصائص المذهب المالكي المميزة له عن غيره من المذاهب وسنتوقف عند ثلاثة مفاهيم مؤسسة رأى فيها الباحثون أصولا مميزة هي عمل أهل المدينة والمصالح المرسلة وسد الذرائع.

1 ـ عمل أهل المدينة
مما يميز الإمام مالك رحمه الله، وعدّ من أصول فقهه استناده في أحكامه إلى أقضية عمر عثمان واستئناسه بما أضيف إليهما من آثار الصحابة والأئمة. ولئن لم يضبط له الإمام مالك مفهوما محددا فإن أصحابه عرّفوه من بعده، بكونه ما اتفق عليه العلماء والفضلاء بالمدينة في زمن بعينه، سواء أكان سنده نقلا أو اجتهادا. ويجد الباحثون اليوم في هذا الأصل دليلا على عدم تقيّده في اجتهاده بالنص تقيّدا مطلقا وأثرا لأخذه بالسياق الخارجي في فهمها، ولمسوا فيها قناعته بأن أهل المدينة المنورة كانوا، بحكم المعايشة، أقرب إلى النص القرآني وإلى الحديث النبوي وإلى سياقاتهما. ومما يؤيد عندهم مثل هذا التخريج كتابه "الموطأ" فقد وجدوا في العنوان استعارة عن الطريق المداس من الرسول وصحبه، الضاجّ بالحركة والحياة.

2 ـ المصالح المرسلة
يراد بالمفرد منها المصلحة التي أهملها الشرع ولم يثبت فيها حكما. ويصدر القائلون بها من كون الشريعة إنما جاءت لجلب المصالح للناس ودرء المفاسد عنهم. فلابدّ لهذا المعطى أن يكون دليلا يحتكم إليه الفقيه وهو يستنبط الحكم. وتعرّف المصلحة في متون الفقه بجماع الخير وبالفعل الذي يحصل به الصلاح أي النفع منه دائما أو غالبا للجمهور أو للآحاد وتستهدف المحافظة عن مقصود الشرع حسب الغزالي. ومن هنا سينشأ مفهوم مقاصد الشريعة لاحقا.

وإجمالا تمثل المصلحة ما يعود بالنفع على المرء في مختلف وجوه حياته وتظل مشروطة بتحقق مقاصد الشريعة. واختلف الباحثون في تقدير انفراد الفقه المالكي بها أو أخذها عن غيره من العلماء مثل إسحاق إسماعيل بن إسحاق القاضي. فيؤكد أصحابه ذلك شأن تاج الدين السبكي (727 ـ 771) في "جمع الجوامع في أصول الفقه" الذي يرى أنّ مالكا يأخذ بها مطلقا ولو خالفت القواعد الشرعية وجرى تابعوه مجراه، فيما يرى آخرون أنّ الاستحسان الذي قال به أبو حنيفة:، ومداره على عدول الفقيه في الحكم عن وجه اعتمد في نظيرات المسألة إلى آخر لعلّة ما أوجبت هذا العدول أو طلب السهولة في الأحكام فيما يبتلي فيه الخاصّ والعام، أو الاستدلال الذي قال به الشافعي نظيرين لهذا الأصل. واستشهدوا ببعض الأحكام التطبيقية التي وجد فيها مالك مصالح مرسلة فيما يدخلها أبو حنيفة في باب الاستحسان. ولكن الرأي عند جمهور الفقهاء أنه يأخذ بها إذا ما لم يوجد مانع وما كانت داخلة في قواعد الشرع الكلية.

3 ـ سد الذرائع
الذرائع وفق موافقات الشاطبي هي التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة. ويعرفها الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن بأنها "عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه، يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع" فيُمنع المباح الذي يفضي سبيله إلى غير المباح. وقد اختلف الفقهاء بشأنها: هل يجب فتحها أم يتوجب سدها. ولئن قال الأحناف والحنابلة والشافعيون بهذا الأصل أحيانا، فإن إفراد المالكية بها يعود إلى أنه أُثر عن الشافعي إنكارها وعن أبي حنيفة فتح باب الحيل أي ما يتوصل به إلى المقصود بطريق خفي، وهذا الأصل على طرف نقيض من سدّ الذرائع. أما الطبقة الأولى من الحنابلة فلم يقولوا بها ولم يظهر إلا في كتبهم المتأخرة فيما أكثر مالك من الأخذ بها. ولذلك قال القرافي في الفروق 2/ 32 "متى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة للمفسدة منع الإمام مالك من ذلك الفعل."
لقد جسدت هذه الأصول تفاعل الفقه المالكي، الذي يعتمد الأصول المعهودة في المدينة ومصر والعراق والمدينة ولكنّ إفريقية ستمنحه صرحا متينا بما وثّق عنه طلبته أو ألفوا على منهجه من أمثال أبي سعيد عبد السلام سحنون محرّر "المدونة" ومحمد بن عبد كاتب "الرسالة". وكان هذا المحيط قلقا متقلب الأمواج. فمنحها، بعد صراع مذهبي طويل، استقرارا عقائديا.

ب ـ إفريقية في مرحلة الفتح المبكر
1 ـ إفريقية المفرّقة
عقائديا يمكن أن نقسم تاريخ إفريقية الإسلامية إلى ثلاثة أطوار كبرى تمثل مرحلة الفتح المبكر طورها الأول الذي جعلها مقصدا للمذاهب الأربعة ومذاهب أخرى. وتمثل مرحلة التنافس بين المذهب الحنفي والمالكي الطويلة طورها الثاني الذي ينتهي مع نهاية الدولة الحسينية في منتصف القرن الماضي ويختص الطور الثالث الذي يبدأ مع قيام الجمهورية باستقرار الأمر للمذهب المالكي ويمكن وسمه بطور الصفاء المذهبي.
لقد كانت مرحلة الفتح المبكر مرحلة اكتشاف الأرض الجديدة بالنسبة إلى الفاتحين ومرحلة البحث عن هوية عقائدية بالنسبة إلى السكان الأصليين. ومن البديهي أن تتسم المرحلة الأولى بالتردد والارتباك. فقد جعلها السياسي مرحلة اختبار قوة البيزنطيين هناك قبل الشروع في نشر الإسلام. فوفق ابن عبد الحكم، في أثره "فتوح إفريقية والأندلس"، استأذن عمرو بن العاص بعد أن حسم أمر مصر وبلغ برقة سنة 21 ه، في التوسع إلى شرق إفريقية ولكنّ جواب الخليفة عمر بـ"ـلا" كان قاطعا، ومبرره "أنها ليست بإفريقية ولكنها المفرّقة، غادرة مغدور بها، لا يغزوها أحد ما بقيت".
لمّا كان الخوارج يميلون إلى العمل في الأقاليم البعيدة عن مركز الخلافة مثلت لهم إفريقية مجالا حيويا مثاليا. فقد وجدوا فيها منأى عن السلطة ووجدوا في تهميش البربر وشعورهم بظلم عمال بني أمية إطارا مناسبا لنشر مذهبهم بينهم.
ولم تتحقق أولى الغزوات إلا في عهد ولاية عثمان سنة 27 ه، ضمن ما بات يُعرف بغزوة العبادلة السبعة التي قادها عبد الله بن سعد وتلتها حملات معاوية بن حديج في بدايات العهد الأموي، بين سنة 34 ه و46 ه، وكان تحصيل الغنائم والسبي أهم أهدافها. وكان البرابرة يذعنون ويعلنون إسلامهم ثم يعودون عنه بعودة هذه الحملات إلى الشرق. وهذا ما جعل عقبة بن نافع الخبير بالبربر يدرك ضرورة إيجاد نقطة ارتكاز بعيدا عن جيوش الروم. فبنى القيروان في وسط إفريقية سنة 50 ه. ولكن الأمويين عامة لم ينظروا إلى أفريقية باعتبارها وجهة جديدة للإسلام لقدر وجدوا فيها مصدرا للموارد.
فقد "كانوا" فيما ينقل الحسين بن محمد شواط عن مصادر مختلفة في مدرسة الحديث في القيروان من الفتح الإسلامي إلى منتصف القرن الخامس الهجري، ص 68 "فإنهم كانوا يستبيحون طرائف المغرب ويبعثون فيها إلى عمال إفريقية .. فيرسلون لهم البربريات السنيات". وتظهر ولاية عبيد الله بن الحبحاب هذه السياسة بجلاء. ومثل عمر بن عبد العزيز نهاية القرن الأول الاستثناء. فقد أرسل ابن أبي المهاجر وعشرة من التابعين ليعلموا البربر دينهم. وقضى أغلبهم هناك. وبذلك تأسست اللبنة الأولى للقيروان باعتبارها مركزا للعلم لا محطة ترحال لجيوش الفاتحين.
وكان من البديهي أن يشعر البربر بالغبن لعدم مساواتهم ببقية المسلمين. ودفعهم تهميشهم إلى التمرّد فكانت ثورة كسيلة الذي كان جنديا في جيش عقبة سنة 71ه، ثم ثورة الكاهنة سنوات قليلة بعد مقتله. وكان من البديهي أيضا أن يمثل هذا الفراغ الذي أحدثته الساسة الأموية إغراءً للمذاهب المارقة. فقد رأت في إفريقية ملاذا بعيدا عن أذرع السلطة الطويلة ومنطلقا لمشاغبة السلطة المركزية وإرهاقها.

2 ـ الخوارج يحاولون استمالة البربر
لمّا كان الخوارج يميلون إلى العمل في الأقاليم البعيدة عن مركز الخلافة مثلت لهم إفريقية مجالا حيويا مثاليا. فقد وجدوا فيها منأى عن السلطة ووجدوا في تهميش البربر وشعورهم بظلم عمال بني أمية إطارا مناسبا لنشر مذهبهم بينهم. فتزعم سلمة بن سعد الحضرمي الذي أرسله الإمام أبو عبيدة نحو 95 ه أول بعثات الإباضية. فكان يعلن تحريف الأمويين للدين ويدين إشاعتهم للظلم واستئثارهم بأموال المسلمين. ويقدم مذهبه باعتباره بديلا قائما على الصلاح والعدل والاستقامة. واستطاع تشكيل بعثة علمية قوامها أربعة طلاب تلقت مبادئ هذا المذهب على أبي عبيدة ثم تولت نشر الإباضية في عامة شمال إفريقيا.
ولكنّ أهم تعبئة للخوارج سيقوم بها أبو يزيد مخلد بن كيداد، المكنى بصاحب الحمار، وستقع بعد قرنين وربع من ظهورهم في إفريقية. فقد ثار على محمد بن عبيد الله بن الحسين القائم بأمر الله الخليفة سنة 326هـ/938م. وكان قد ظهر أول الأمر بالجريد، ثمّ تحوّل إلى جبال أوراس في الجزائر محتميا بمناعتها ثم زحف على إفريقيّة في جيش قوامه مائة ألف رجل.

3 ـ الشيعة يؤسسون خلافتهم في المهدية
بالعين نفسها نظر الشيعة إلى إفريقية. يقول القاضي النعمان في مؤلفه "افتتاح الدعوة". "قدم إلى المغرب في سنة خمس وأربعين ومائة رجلان من المشرق، قيل إنّ أبا عبد الله جعفر بن محمد (ص) [يقصد الإمام جعفر الصادق] بعث بهما وأمرهما أنّ يبسطا ظاهر علم الأئمّة من آل محمد". فحل الحلواني، وهو أحد الرجلين بتالة واتصل بأهل "الأربس" قرب مدينة "الكاف" ونشر فيها المذهب الشيعي والتقى تجار الجنوب الذين كانوا يقصدون الشمال لمقايضة التمور بالقموح. فسمعوا منه وأخذوا عنه وكان مصدر انتشار التشيع لفترة في منطقة "نفطة".
ويذكر قوله "بعثت أنا وأبو سفيان فقيل لنا: اذهبا إلى المغرب فإنما تأتيان أرضا بورا فاحرثاها واكرباها وذلّلاها إلى أن يأتيها صاحب البذر فيجدها مذلّلة فيبذر حبّه فيها. فكان بين دخولهما المغرب ودخول صاحب البذر ـ وهو أبو عبد الله ـ مائة وخمس وثلاثون سنة..." وأبو عبد الله هذا هو المكنى بالداعي الصنعاني ناشر الدعوة الشيعية التي مهدت لحكم عُبيد الله المهدي بالله مؤسس الدولة الفَاطِمِيَّة بالمهدية من منطقة الساحل التونسي اليوم.
ولكن ما إن استقام الأمر للشّيعة فيها حتى عملوا على حمل النّاس على اتّباع مذهبهم بالغلظة والبطش والترهيب وإراقة الدماء. وفي هذه الأجواء المضطربة، ونحو سنة 170 ظهرت الرحلات العلمية من إفريقية وعامة المغرب الكبير إلى الشرق وبدأ اتصال طلبة العلم بمالك في المدينة المنورة ليأخذوا عنه المذهب الذي سيحقق لتونس اليوم ولعامة بلدان المغرب تجانسا عقائديا ووسطية تفتقر إليهما عديد البلدان الإسلامية.