قبل عقد من الزمن أشعل الشاب التونسي محمد بوعزيزي النار في نفسه احتجاجا على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، فكان ذلك الحدث شرارة انبعثت منها سلسلة من الانتفاضات والثورات العربية، أصبحت فيما بعد تعرف باسم الربيع العربي، ونجم عنها إسقاط الطغاة العرب في تونس ومصر وليبيا واليمن.
بينما يعتقد البعض أن الربيع العربي أخفق في تحقيق أهدافه، وخاصة إقامة حكومات حرة وديمقراطية، إلا أنه كانت هناك مكاسب كثيرة، بما في ذلك الإطاحة برؤوس أربعة من أعتى الأنظمة السلطوية: زين العابدين بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر، ومعمر القذافي في ليبيا، وعلي عبد الله صالح في اليمن.
لقد كشفت أحداث العقد الماضي عن أن تكاليف السلطوية ورفض التغيير السياسي مرتفعة جدا، ومع ذلك فإن الأنظمة التي تمنع الإصلاح مستعدة لدفع ثمن باهظ مقابل البقاء في السلطة.
رعاة الثورة المضادة
وهذا بكل تأكيد هو الوضع في سوريا، التي دمرت دمارا شاملا بسبب رفض بشار الأسد التجاوب مع مطالب التغيير، حتى لم يعد هناك دولة ذات سيادة بإمكانه أن يحكمها، نظرا لأن سوريا باتت تخضع لحماية قوى أجنبية ووصايتها، وبشكل خاص إيران وروسيا.
وبالشكل نفسه كانت تكاليف الانقلاب الذي قام به الجنرال عبدالفتاح السيسي في مصر في عام 2013 باهظة جدا، وهو الذي اشتهر في الساحة الدولية بصفة أسوأ دكتاتور في الشرق الأوسط. ولقد أجبر إضافة إلى ذلك على التضحية بقدر من الوزن الإقليمي الذي كانت تتمتع به مصر إرضاء لحلفائه، بمن فيهم الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وإسرائيل.
لقد أنفق رعاة الثورة المضادة، وخصوصا الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، كميات ضخمة من المال لوقف الربيع العربي وضمان ألا تصل الاحتجاجات إليهم، فتؤدي من ثم إلى خلعهم من عروشهم. وها هم اليوم يتورطون في حروب أهلية في اليمن وليبيا، ويمولون المرتزقة ولوردات الحرب، من مثل الجنرال خليفة حفتر، ووصلت سمعتهم في الساحة الدولية إلى الحضيض في ظل القتل الذي يمارسونه بحق الأطفال والمدنيين في اليمن.
لعل شراسة الثورة المضادة نفسها هي أهم دليل على نجاح الربيع العربي في تحقيق أهدافه، التي يأتي على رأسها رفع تكاليف الطغيان؛ ولذلك تحاول الإمارات العربية المتحدة ومصر والمملكة العربية السعودية بأي ثمن الحيلولة دون عودة الثورات والانتفاضات العربية.
تقدر المساعدة الاقتصادية التي قدمتها الأنظمة في أبوظبي والرياض للسيسي بما يزيد عن ستين مليار دولار، ناهيك عن صفقات الأسلحة التي وقعها مع فرنسا وإيطاليا وروسيا والولايات المتحدة. إضافة إلى ذلك، يحصل السيسي على دعم سياسي بهدف تحسين صورته في واشنطن من خلال مجموعات الضغط، ولقد أدى سفير الإمارات يوسف العتيبة دورا محوريا في تسويق الانقلاب المصري عام 2013 لدى الإدارة الأمريكية.
موجة أخرى من الانتفاضات
تكشف تجربة الربيع العربي عن أن بنية الاستبداد العربية عرضة للانهيار، وذلك بالرغم من أجهزة الأمن والمخابرات واستخدامها لوسائل التعذيب كافة والقتل وانتهاك حقوق الإنسان؛ بهدف ترهيب الخصوم.
فمن كان يتصور أن نظام مبارك الذي استمر لثلاثين عاما سيسقط في ثمانية عشر يوما فقط؟ ومن كان يظن أن قذافي ليبيا سيعثر عليه مختبئا في جحر بعد شهور قليلة من انطلاق الثورة ضده، أو أن صالح اليمن سيلقى المصير نفسه، ويلقى حتفه بشكل بشع بعد أن مكث في الحكم لثلاثة عقود؟
لربما من المفارقة أنه على الرغم من استمرار محاولات الثورة المضادة إجهاض الربيع العربي بالقوة، إلا أن الآمال في الديمقراطية ماتزال حية.
فطبقا لمؤشر الرأي العربي للفترة 2019 / 2020، وهو أضخم مسح سنوي يجري في العالم العربي بتنظيم من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يعتقد ما يقرب من 74 بالمائة من العرب بأن الديمقراطية هي نظام الحكم الأنسب لأوطانهم.
أضف إلى ذلك أن المنطقة العربية شهدت موجة أخرى من الانتفاضات والثورات خلال العامين الماضيين، بما في ذلك في السودان والجزائر والعراق ولبنان، حيث اندفعت الحشور إلى الشوارع مطالبة بتغييرات اقتصادية واجتماعية وسياسية.
أطيح بالرئيس السوداني السابق عمر البشير بعد أن قضى في السلطة ما يزيد عن ثلاثين عاما، واستقال الرئيس الجزائري السابق عبدالعزيز بوتفليقة بعد مظاهرات حاشدة. وفي العراق ولبنان انتفض الناس احتجاجا على الفساد والطائفية، ورفضا لهيمنة قوى خارجية على القرارات السياسية الداخلية.
كما انتفضت قطاعات عديدة من المجتمع المصري في أواخر عام 2019 للمطالبة بتحسين أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية، وذلك على الرغم من القمع الشديد الذي يمارسه نظام السيسي.
الانقسامات السياسية والأيديولوجية
ومع ذلك، فإن أي تقييم موضوعي لتجربة الربيع العربي لا بد أن تأخذ بالحسبان الأخطاء التي ارتكبتها الحركات السياسية والثورية، التي كان من المفروض أن تقود المجتمعات العربية بعد سقوط الأنظمة السلطوية.
لقد عانى هؤلاء من انقسامات سياسية وأيديولوجية، وخاصة بين الإسلاميين والعلمانيين، وانشغلوا بمسائل الهوية، مثل العلاقة بين الدين والدولة. وكثيرا ما كانت هذه الانقسامات على حساب القضايا الأكثر إلحاحا، مثل تحسين الأحوال الاقتصادية والاجتماعية، والقضاء على الفساد ومعالجة البطالة.
وأدى الاستقطاب بين تلك القوى ليس فقط إلى تقويض التحول الديمقراطي المحتمل، بل وأيضا إلى عودة الأنظمة القديمة، كما حصل في مصر.
وفشل الإخوان المسلمون في مصر في الحكم بسبب قلة الخبرة في إدارة شؤون الدولة، ونتيجة لذلك تآمرت عليهم قوى النظام القديم، فاتسعت هوة الشك والريبة واختارت الحركات العلمانية التحالف مع العسكر للتخلص من الإخوان المسلمين. ومازالت هذه الانقسامات بين الإسلاميين والعلمانيين تؤدي دورا مهما في إدامة الأزمة في مصر، بعد مرور سبعة أعوام على الانقلاب.
كما أخفقت الحركات السياسية في إعادة بناء العلاقات المدنية العسكرية من أجل بناء القدرة المدنية داخلها وإخراج العسكر من الحياة السياسية. سمح هذا الإخفاق للمؤسسة العسكرية بالاحتفاظ بنفوذ كبير في القطاعات الحيوية، مما ساعدها على العودة إلى السلطة كما حدث في مصر. ولقد نجح العسكر في خداع القوى السياسية، حتى باتوا شركاء أساسيين في إدارة التحولات، كما هو الحال في السودان.
وبالتزامن مع ذلك، بقيت قوى نظام مبارك – وبشكل خاص جنرالات الجيش – على تواصل وتنسيق تام مع القوى الإقليمية المناهضة للثورة في أبوظبي والرياض وتل أبيب، وكذلك في الغرب، وخاصة في الولايات المتحدة، بهدف إعادة الاستيلاء على السلطة بذريعة إعادة الاستقرار ومحاربة الإرهاب.
التوق إلى الحرية
مرت عشرة أعوام منذ انطلاق الربيع العربي، ورغم المحاولات التي تبذل لإسكات الشعوب العربية، فإن قطاعات كبيرة – وخاصة قطاع الشباب – مازالت مستمرة في التوق إلى الحرية والكرامة والعدالة. ولا أدل على ذلك من أنه كلما توقف القتال في سوريا، يخرج المحتجون السلميون للتعبير عن رفضهم للأسد والمطالبة برحيله من السلطة. وكذا الحال في مصر، حيث يتعاظم النقد الموجه نحو السيسي بشكل يومي، سواء عبر منصات التواصل الاجتماعي أو من خلال الاحتجاجات التي تنظم من حين لآخر، على الرغم من قبضة السيسي الحديدية.
قبل عدة سنوات، ما كان أحد ليجرؤ على انتقاد السيسي سواء في السر أو في العلن. أما الآن، فتضج وسائل التواصل الاجتماعي بالإهانات والاتهامات الموجهة ضده وضد عائلته والمقربين منه – اتهامات بالفساد وسوء استغلال السلطة والنفوذ لتحقيق مكاسب مالية لنفسه ولأفراد عائلته.
لقد أقحم السيسي الجيش المصري في مجالات الاقتصاد كافة، مما أسخط قطاعات كثيرة من قطاعات المجتمع، وخاصة رجال الأعمال الذين أيدوه بقوة عندما جاء إلى السلطة في انقلاب عام 2013.
وبإغلاق السيسي منافذ التعبير كافة، وفي خضم اللجوء المستمر من قبل الدولة للعنف والقهر ضد المعارضين، فإن الوضع مرشح للانفجار في وجهه عاجلا أم آجلا.
وفي الوقت نفسه، فإن ما هو صادم في حكاية الربيع العربي هو الإفلاس السياسي والأخلاقي للغرب. فبينما تعطي الحكومات الغربية دروسا حول احترام الديمقراطية فإن سلوكها خلال العقد الماضي كان على العكس تماما من ذلك. لقد فشلت الحكومات الغربية في دعم عمليات التحول الديمقراطي في مصر وليبيا وتونس واليمن، وبدلا من ذلك بادرت بمساندة الأنظمة العربية السلطوية التي ناصبت الربيع العربي العداء.
تحقيق الحلم
تتواطأ حكومات الولايات المتحدة وأوروبا مع الأنظمة السلطوية في مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين. وأهم دليل على ذلك هو صمتهم المخزي إزاء الانقلاب الذي قاده السيسي في عام 2013، بالإضافة إلى إخفاقهم في إدانة الانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان في البلد.
كما تواطأت هذه الحكومات مع ولي عهد السعودية محمد بن سلمان الذي يقف من وراء قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في تشرين الأول/أكتوبر 2018 داخل القنصلية السعودية في إسطنبول. كما التزموا الصمت إزاء اعتقال محمد بن سلمان للعشرات من الصحفيين ورجال الأعمال وعلماء الدين والنشطاء السياسيين.
كما استمروا في جني الأرباح من الحرب في اليمن، التي ولدت من رحم انتفاضة ثارت ضد مرشح مدعوم سعوديا، أريد له أن يخلف علي عبدالله صالح في الحكم.
لقد أولت البلدان الغربية أولوية لصفقات السلاح والاستثمارات على حقوق الإنسان والديمقراطية في العالم العربي. ولعل من أهم الدروس التي ينبغي أن تتعلمها الشعوب العربية من مجريات الأحداث خلال العقد الماضي، هو عدم الاتكال على الدعم الخارجي في مواجهة الأنظمة السلطوية ومن أجل تحقيق الديمقراطية.
قد تبدو نتائج الربيع العربي متواضعة مقارنة بالتضحيات التي بذلت في مصر وليبيا وسوريا واليمن، ولكن الحقيقة التي لا مفر منها هي أن الربيع العربي أضحى مرجعا للشباب العربي الذي يحلم بالحرية والكرامة والعدل، الذي لن يتوقف عن النضال إلى أن يتحقق ذلك الحلم.
عن صحيفة "ميدل إيست آي"