1- الحرية وأشواق الثورة
من أهم ما عبّر عنه التونسيون وهم يصوغون أشواقهم الثورية؛ هي الحرية والعدالة والكرامة.
التونسيون الذين عانوا طويلا قمع الحريات ودفعوا أثمان تعبيرهم وأثمان صمتهم؛ يريدون من ثورتهم أن تكون حالة تحرر من الخوف والمنع وإحصاء الكلمات والحركات والأنفاس. يعلم التونسيون أن الاستبداد إنما ينبت في الخوف وفي الصمت وفي الأطماع، وحين تصبح المجتمعات قلاع خوف تتحول إلى منابت للظلم واستغلال النفوذ والسيطرة على ثروات البلاد لصالح المستبد وعائلته.
ما كان ابن علي ليتحول إلى عنوان للقوة والبطش والقهر (وهو الذي دخل القصر مرتبكا) لو لم يتقاعس التونسيون في ممارسة النقد بالقدر الكافي، وفي التعبير عن الرفض حين يكون لا بد من الرفض، وعن نصرة المظلومين حين يتعرض بعض التونسيين للظلم بسبب مواقفهم السياسية أو انتماءاتهم الحزبية أو معتقداتهم الدينية. لقد كانت النخب السياسية والفكرية والإعلامية في غالبيتها مشاركة في إنتاج "ظاهرة ابن علي" وفي استمرارها لأكثر من عقدين.
لذلك نجد أن مفردة "حرية" هي العنوان الأبرز لدى كل السياسيين ولدى كل النخب حين يصوغون خطابهم عن الثورة وأشواقها، وحين يحذرون من ارتدادات ومؤامرات يرونها مهددة لأهم مكسب وهو "الحرية".
ما يجعلنا نثير سؤال الحرية اليوم هو ما يحدث من حين لآخر من اعتقال بعض المدونين بتهمة الثلب والتعرض بفعل موحش لرمز من رموز الدولة.
2- الحرية والمسؤولية
يُجمع المتكلمون في الحرية، سواء من منطلق فلسفي أو قانوني، على كونها التزامَ حدود الفعل الإرادي دون تعرض لحرية الآخرين. فالحرية "مسبح" مشترك لشركاء الوطن ولشركاء الهوية الإنسانية، لا يحق لجماعة أو فرد الاستحواذ عليه ومنع الآخرين من السباحة فيه.
الحرية وعي واقتدار ومسؤولية، فهي وعي بمعانيها وبجوهرها الإنساني، وهي اقتدار معرفي وعملي أيضا حتى لا تكون مجرد شوق أو وهم أو شعار، وهي مسؤولية لأنها ضد الفوضى والعبث واللامعنى.
الحرية كما يحرسها الوعي، يحرسها القانون أيضا حتى لا تكون "مَدَاسًا" للزائفين وفاقدي السند المعرفي والقاصرين عن الحركة الذهنية، ولذوي الاحتياجات الأدبية والأخلاقية. القانون لم يتم سنّه عبر التاريخ إلا لضبط الفعل البشري، بما يجعله نافعا لصاحبه ولغيره دون مس بحقوق الآخرين المادية والمعنوية.. القانون هو سياج الحرية حتى لا تسيح فتنقلب فوضى ويموج الكل في الكل، ودائما بوهم الحرية.
3- الحرية وهيبة الدولة
تتاولت مواقع اجتماعية فيديو لشاب من الشباب العائد من الحدود الليبية وهو يشتم رئيس الجمهورية قيس سعيد ويشتم الدولة التونسية، بعدها "أكد كاتب عام النقابة الأساسية لمحافظة شرطة الحدود برأس جدير، البشير الرحيلي، أنه تم عشية الاثنين 20 نيسان/ أبرريل 2020، إيقاف المواطن الذي تهكم على رئيس الجمهورية والدولة التونسية بألفاظ نابية أثناء توجه المواطنين العالقين بليبيا إلى معبر رأس جدير، كما أكد أنه سيتم إحالة المتهم إلى المحكمة الابتدائية بمدنين".
شباب فيسبوك وعدد من الأسماء المعتبرة من صناع الرأي العام عبروا عن استيائهم، خاصة من نشر صورة مهينة للشاب وهو في حالة إيقاف، واعتبروا ذلك عودة إلى ممارسات النظام القديم في إهانة المواطنين.
المواقف كانت بين معترض على إيقاف الشاب لكونه برأيهم عبر عن موقف تكفله الحرية، خاصة وأنه كان في وضعية نفسية سيئة، هو ومئات التونسيين الذين ظلوا عالقين بمعبر رأس جدير وفي العراء على الحدود الليبية حوالي أسبوعين دون أن تنتبه إليهم الدولة التونسية، وبين من يعترض فقط على أسلوب معاملة الشاب الموقوف، حيث ظهر يجلس القرفصاء وفي وضعية إذلال وهو ينظر إلى الكاميرا بعينين منكسرتين وبادية عليه علامات التعب والإجهاد والخوف. الشاب ينتمي إلى عائلة معوزة، وهو متزوج وله أبناء ستكون لتلك الصورة تداعياتها السلبية في بنيتهم النفسية والذهنية وفي مواقفهم من الدولة أيضا.
وقد تكون المواقف الأكثر اتزانا هي التي أدانت إهانة هذا الشاب لهيبة الدولة وأقرت بحقها في مقاضاته، ولكن دون إذلاله ونشر صورته لعموم الناس لمزيد من التنكيل به وبأهله. أصحاب هذا الموقف ليسوا فقط ممن ينتصرون لرئيس الجمهورية قيس سعيد، وإنما أيضا ممن ينتصرون لهيبة الدولة ويعتبرون الحرية مسؤولية وليست فوضى.
4- بين كرامة الرئيس والأمن الوطني
راج في البداية خبر مفاده أن رئيس الدولة طلب إطلاق سراح الشاب الموقوف واستبشر الكثيرون بذلك وشكروا للرئيس موقفه الإنساني، ولكن تبيّن أن لا صحة للخبر وأن الشاب هو رهن الإيقاف لحد الآن.
هل فعلا أن رئيس الدولة يضيق صدره بغلطة شاب فقير بسيط، وهو القائل بأنه على نهج عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ لا أظن ذلك وهو من يتعرض يوميا إلى تعليقات ونعوت غير مستساغة قانونا وأخلاقا، دون أن يبالي بها أو يعلق عنها أو يتتبع من يسيئون إليه. وهو يعلم أن كل رؤساء ما بعد هروب ابن علي قد تعرضوا لـ"التنكيل"، وكأن التونسيين يثأرون لأنفسهم من موقع الرئاسة وليس من شخص الرئيس.
أعتقد أن الاستمرار في إيقاف الشاب هو لعلاقة بأبحاث أمنية تجريها الجهات المختصة لمعرفة إن كان ذاك الشاب يعبر عن حالة نفسية عابرة أم إنه كان يعبر عن فكرة يخفيها، خاصة وهو قادم من منطقة ساخنة هي على حدودنا ونحن كتونسيين معنيون بكل ما يحدث فيها.
على وقع محاكمات التيك توك في تونس.. الحرية الأخلاقية والمسؤولية (2-2)