قضايا وآراء

قراءة في كلمة رئيس الوزاء التونسي لتقديم برنامج حكومته

1300x600
في مشهد يُعتبر استثناء في مسار الثورات العربية، استطاعت تونس (رغم كل الأزمات السياسية) أن تحافظ على مسار انتقالها الديمقراطي، واستطاع رئيس وزرائها المكلف السيد إلياس الفخفاخ أن يشكل حكومته قبل انتهاء الأجل الدستوري، الذي كان سيدفع برئيس الجمهورية إلى حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة. فبعد مشاورات مضنية، نجح رئيس الوزراء المكلف (بعد جلسة ماراتونية امتدت لما يقارب 15 ساعة) في ضمان حزام سياسي كاف لتزكية حكومته أمام البرلمان، وهو ما وقع بالفعل بحصوله على 129 صوتا، مع معارضة 77 نائبا واحتفاظ نائب بصوته.

وسنحاول في هذا المقال أن نقوم بقراءة تحليلية- نقدية لكلمة السيد الفخفاخ، خلال تقديم أعضاء حكومته وبرنامجها، وهي الحكومة التي أسماها بـ"حكومة الوضوح وإعادة الثقة".

لعل أولى ملاحظة تلفت انتباه المستمع لكلمة السيد الفخفاخ، هي جملته السياسية التي أرادها بين الفصحى والعامية، مع اعتماده شبه الدائم على الورقة المكتوبة. وهو بهذا الخيار يبتعد عن الشكل الاتصالي لرئيس الجمهورية، الذي اشتهر بعربيته الفصيحة وبابتعاده عن النصوص المكتوبة. ونحن لا نريد أن نذهب بالتأويل إلى حد القول بأن السيد الفخفاخ أراد اتخاذ مسافة "اتصالية" من الرئيس، حتى يتجنب ما يلاحقه من اتهامات بكونه "رجل الرئيس" أو وزيره الأول في القصبة، ولكننا لا ننكر أنه خيار اتصالي قد يكون محكوما بهذا المعطى، وإن بصورة أقل من احتكامه إلى رغبة السيد الفخفاخ بالوصول إلى أكبر عدد من المتلقين لكلمته، دون لبس أو تأويل فاسد.

لقد كثّف السيد الفخفاخ مشروعه الحكومي كله في التسمية التي ارتضاها للحكومة: "حكومة الوضوح وإعادة الثقة"، وهو بذلك يؤسس كل التفصيلات الواردة في كلمته (بمحاورها ومهامها ووعودها) على هذين المعنيين، أي على معنى الوضوح ومعنى إعادة الثقة. فهو "واضح" في ضبط أولويات حكومته التي ضبطها في محاور ثمانية، وهو واضح في معايير اختيار أعضائها (مناضلين وكفاءات)، وهو واضح أيضا في تحديد شركائه السياسيين والاجتماعيين، وفي تحديد خصمه الأساسي (الفساد بمختلف وجوهه وحوامله البشرية والمؤسساتية).

كما أن السيد الفخفاخ، يعي مقدار ما بلغه الشعب من عدم الثقة في دولته ومؤسساتها ونخبها السياسية، ولذلك فإنه قد طرح على نفسه استعادة تلك الثقة من خلال برنامج مفصّل، ولكنه برنامج يتأسس ضمنيا على "ثقة" مجلس النواب" في وعود رئيس الوزراء المكلف. فعلى النواب أن يثقوا بوعد السيد الفخفاخ، وأن يؤمنوا ببرنامج غابت عنه المعطيات الكمية والأرقام "عمدا"، لأن رئيس الوزراء المكلف لا يريد (حسب قوله) مغالطة الشعب، ولكنه يتعهد بتقديم تلك المعطيات والأرقام والبرامج التفصيلية في قابل الأيام، وبعد الحصول على تزكية المجلس.

كنا قد بيّنا في مقال سابق أن السيد الفخفاخ يؤسس جملته السياسية (ومعها مشروعه الحكومي منذ لحظة التكليف الرئاسي) على فرضية اكتمال مسار الانتقال السياسي، وضرورة المرور إلى مرحلة الانتقال الاقتصادي والاجتماعي.

وكنّا قد أثبتنا أنها فرضية متهافتة وتحتاج إلى إعادة نظر حتى تكون حكومته هي الرد الأمثل على التحديات التي تطرحها "اللحظة التاريخية" أو "المنعرج التاريخي"، على حد تعبير رئيس الوزراء المكلف نفسه. وقد تكون تونس فعلا في منعرج تاريخي مهم بحكم تأزم الوضع في أكثر من مستوى سياسي واقتصادي وأمني، ولكنّ حكومة السيد الفخفاخ بتركيبتها ومنطق تشكيلها (بل بفلسفتها السياسية وفهمها لطبيعة العلاقة بين ما أسماه رئيس الحكومة لحظتي "التأسيس" و"التجديد")، ليست بالضرورة هي الإجابة الأكثر عقلانية وفعالية على تحديات هذا المنعرج.

ولا يكفي أن يكون في حكومة السيد الفخفاخ مناضلون وكفاءات حتى ينسى التونسيون أنها فيها المشبوه وكاتب التقاير الأمنية في زمن المخلوع، كما لا يكفي أن نعتبر ما حصل زمن المخلوع مجرد انحرافات عن قيم الدولة الوطنية البورقيبية، لينسى التونسيون أن حزب التجمع المنحل كان لحظة ثانية رسّخت الفلسفة السياسية لحزب الدستور ومشروعه الجهوي الزبوني داخليا، والقائم على التبعية والتبادل اللامتكافئ خارجيا.

رغم تعبير برنامج حكومته وأولوياتها عن الانتظارات المشروعة للتونسيين، ورغم تقديم نفسه باعتباره رئيس حكومة الانتقال الاقتصادي والاجتماعي، فإن كلمة السيد الفخفاخ قد جاءت خالية من العديد من الرسائل التي تطابق تسمية حكومته، وتقوّي معنيي الوضوح واستعادة الثقة.

فقد ظل أغلب كلامه في حكم الكلام المرسل أو في مستوى الخطاب "المعياري". فهو لم يوضّح للتونسيين مثلا كيفية متابعة وزرائه وتقييمهم بصورة دورية وقابلة للضبط علميا (مع إمكانية الاستغناء عنهم إذا فشلوا في تحقيق مهامهم)، كما لم يُبين لنا كيف يمكن توفير المال اللازم للقيام بالإصلاحات العميقة (في التربية والصحة العمومية وفي التدخلات الاجتماعية للدولة)، دون أن يتعارض ذلك مع وعده بالتقليل من التداين الخارجي.

كما أن السيد الفخفاخ تجنب الحديث عن علاقة التهرب الضريبي والاحتكار والتهريب والتداين الخارجي الموجه للاستهلاك بالرأسمالية "الوطنية" ومنظمة الأعراف، أو علاقة اتحاد الشغل بالفساد الإداري وبأزمة الفوسفات ودوره في ترسيخ المناخ العام الطارد للاستثمار الخارجي في المعلوماتية والطاقة، باعتبارهما القطاعين الأهم في الثورة الصناعية الرابعة.

ختاما، فإن التركيز المشروع للسيد الفخفاخ على الأولويات الاقتصادية والاجتماعية دون تحديد آليات مراقبة ومتابعة ومحاسبة، ودون تغيير الفلسفة السياسية لحكومته (خاصة في علاقتها بالشركاء الاجتماعيين أو بمراكز القوى الداخلية والخارجية التي أثّرت حتى تركيبة حكومته)، سيجعل من حكومته مجرد امتداد للحكومات السابقة، رغم قدرتها المتوقعة على تحقيق نتائج أفضل، لكنها نتائج لن تخرج البلاد من أزمتها البنيوية التي يواصل السيد الفخفاخ إنكار طابعها القيمي، أي إنكار ارتباطها بالأساطير المؤسسة، لما يُسمّى بـ"النمط المجتمعي التونسي" في لحظتيه الدستورية والتجمعية.
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع