1- زيارة مفاجئة
لماذا انزعج الكثير من رموز المعارضة ومن الجمعيات والمنظمات الوطنية؛ من زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردغان المفاجئة إلى تونس يوم الأربعاء الماضي (25 كانون الأول/ ديسمبر 2019) ولقائه رئيس الجمهورية قيس سعيد بعيدا عن الإعلام؟
لم تكن الزيارة وفق التقاليد المتعارف عليها، بالنظر إلى أهمية الضيف وحجم الدولة التي يرأسها وحجم التبادل التجاري معها، حيث لم يُمهد لها إعلاميا ولم تُتخذ الإجراءات البروتوكولية المعروفة للتعبير عن الترحاب بضيف كبير كما هو معمول به في مثل هذه الزيارات.
هل كان "المسؤولون" السياسيون في تونس يريدونها زيارة بعيدة عن الأضواء توجسا مما يمكن أن تلاقيه من ردود فعل احتجاجية بسبب تناقض المواقف من العديد من القضايا إقليميا ودوليا؟ هل كان قرار الزيارة مفاجئا بسبب تسارع الأحداث الأمنية في ليبيا؟ ما الذي حصل تحديدا في تلك الزيارة، وما هي الاتفاقات التي حصلت بين الرئيسين في قصر قرطاج، خاصة أن التصريحات لم تكن منسجمة؟
هل كانت زيارة الرئيس التركي بتنسيق مع رئيس الجمهورية قيس سعيد، أم مع رئيس البرلمان الأستاذ راشد الغنوشي باعتباره رئيس حركة النهضة وباعتبار العلاقة الفكرية والسياسية بين الحركة وحزب العدالة والتنمية التركي؟
2- طبيعة الزيارة وأبعادها
من الواضح أن زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى بلدنا، وهو مصحوب بطاقم مهم من رجال الدولة، وعلى رأسهم وزير الخارجية ووزير الدفاع ومدير الاستخبارات لم تكن مجرد زيارة تعارف أو زيارة مجاملات دبلوماسية... إنما هي زيارة عمل استراتيجي تتجاوز الاستثمار في بعده الاقتصادي إلى الاستثمار في بعده الاستراتيجي، جغرافيا، وأيديولوجيا، وسياسيا، وثقافيا.
الزيارة بتلك الفجائية وتلك السرعة توحي بكونها زيارة "تنفيذية"، خاصة وقد علمنا أنها في علاقة مباشرة بالملف الليبي، وما تشهده الجارة من صراعات منذ سقوط نظام القذافي وتدخل قوى خارجية تشتغل ضمن محاور متصارعة.
تهديدات خليفة حفتر المدعوم روسيا ومصريا وإماراتيا، وربما حتى "إسرائيليا"، بدخول طرابلس وإسقاط حكومة الوفاق المعترف بها دوليا؛ هي التي جعلت تركيا تسارع إلى إبرام اتفاقية أمنية وبحرية لمنع أي تداعيات خطِرة ضد حكومة السراج، أيضا ضد الجارة تونس. وقد سبق أن هدد حفتر التونسيين، واتهم حركة النهضة بدعم خصومه وبالتدخل في الشأن الليبي.
3- بين التدخل العسكري و"غزو" الأنموذج
زيارة الرئيس التركي المفاجئة إلى تونس لقيت معارضة شديدة من أحزاب سياسية وشخصيات وطنية وإعلاميين، واتحاد الشغل والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان، وبعض الجمعيات. وقد شهدت ساحة السفارة التركية يوم السبت الماضي (28 كانون الأول/ ديسمبر الجاري) وقفة احتجاجية رُفعت فيها شعارات ضد التدخل التركي في الصراع الليبي، وضد إدخال تونس في سياسة المحاور.
وكان الرئيس قيس سعيد قد أعلن بعد يوم من الزيارة بأن تونس لن تكون ضمن أي محور، وأنها لن تسمح باستخدام أراضيها أو أجوائها ومياهها للتدخل في الصراع داخل الأراضي الليبية.
هل السبب الحقيقي للاعتراض على الزيارة هو إمكانية حشر تونس في الصراع الليبي، أم إن هناك أسبابا أعمق وأبعد؟
تجربة حزب العدالة والتنمية حققت نجاحات كبيرة من حيث مقاومة الفساد وتنمية الاقتصاد ومن حيث المواءمة بين عقيدة الشعب المسلم وبين مقتضيات العصر. تكفي الإشارة إلى أن حزب العدالة والتنمية قد فاز أكثر من مرة في انتخابات مشهود لها وفق المعايير الدولية بالنزاهة والصدقية. ثم تكفي ملاحظة مستوى نمو معدل الدخل الفردي من 3000 دولار في سنة 2002 إلى 12480 دولارا في 2013، على أمل أن يصل إلى 25000 دولار في 2023، في الذكرى المئوية الأولى للجمهورية. ولكن بسبب المحاولة الانقلابية والأزمة مع عدة دول غربية، شهد الاقتصاد التركي صعوبات أثرت سلبيا على مستوى الدخل الفردي.
حزب العدالة والتنمية استطاع تحقيق "النخوة" التركية بالتحرر من شهوة الانتماء إلى الاتحاد الأوروبي، والتوغل في المحيط العربي الإسلامي وفق مسار هادئ وغير صدامي، خاصة في المسألة الفلسطينية، حيث تمارس تركيا سياسة مبدئية في دعم حق الشعب الفلسطيني ولكن ضمن آليات القانون الدولي، وهو ما يبعث طمأنة للأطراف الدولية بكون حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية؛ إنما هو حزب مدني ومنسجم في المنتظم الدولي، ولا يمثل إسلامه تهديدا للسلم العالمي أو تقويضا للمعاهدات والاتفاقات الضابطة لأوضاع منطقة الشرق الأوسط... قد يكون منطق التدرج والواقعية هو الذي يفرض على حزب العدالة والتنمية مثل ذاك التمشي الهادئ العميق في قضايا ساخنة ومُهيجة للجماهير... ومهما يكن فإنه يقود تركيا نحو رقي شامل مشهود له عالميا. ولعل آخر إنجازات تركيا العلمية هي السيارة "الحدث" ذات المواصفات العالية، والتي هي إنجاز تركي 100 في المئة.
4- التجربة التركية تجربة وطنية
بعض الملاحظين يقولون إن حزب العدالة والتنمية إنما يشتغل ضمن رؤية وطنية خالصة، أي ضمن رؤية للمصلحة التركية تتفرع عنها مواقف وعلاقات وتعاملات، وأن حزب العدالة والتنمية ليس حزبا عقديا بالمعنى التقليدي.
تحرير حزب العدالة والتنمية لتركيا من "شهوة" الانتماء إلى الاتحاد الأوروبي، وانتهاجه سياسة التوغل في خارطة العالم الإسلامي وتحت شعار "العثمانية" مثّل قلقا لأطراف عدة (الطرف الخليجي/ الطرف الأوروبي/ الطرف الإيراني.).. ولكل من تلك الأطراف مصالح ونوايا واستراتيجيات.
"إسلام" حزب العدالة والتنمية المستساغ محليا وغربيا سيجد منافسة من "إسلام" خليجي محافظ تقليدي، ومن "إسلام" إيراني لا يكف عن التحشيد والثوران، ومن "إسلام" علماني يتخذه أصحابه عنوانا فقط لمواجهة مدارس "الإسلام السياسي".
وسيجد أيضا قلقا في بعض دول أوروبا، تحديدا ممن لها حنين استعماري لدول عربية، وخاصة أفريقية ومغاربية.
زيارة أردوغان إلى تونس (وربما ليبيا) هي عامل دعم معنوي بالتأكيد للحركات الإسلامية في هذه البلدان، وهي تخوض تجربة الحكم بغير بوصلة مجربة، إضافة إلى ما ستحققه من دعم مادي قد يكون مهما في مرحلة حرجة خاصة في تونس.
هذه الزيارة هي أشبه ما تكون بعملية شدّ حبال السفينة التركية إلى مواطن جديدة لتجريب الإسلام السياسي/ الديمقراطي، وسيكون النجاح إذا ما تحقق شرفا للجميع. وأعتقد جازما بأن الترتيبات الدولية تقتضي حتما نجاح التجربة وتقتضي استمرار الإسلام السياسي/ الديمقراطي/ المعتدل في الحكم.
نجاح التجربة التركية بالمقياس التنموي والسياسي هو الذي يُغري شعوبا ودولا فاعلة ومؤثرة كي تعمل على التماهي مع مثل تلك التجربة، خاصة في تونس ومصر والمغرب وليبيا، وربما الأردن وسوريا، في ما يشبه عملية إيقاظ "للرجل المريض"، علّه يستعيد عافية نصف جسمه ليكون قوّة ناعمة رادعة في وجه طموح آخر يقترب من المنطقة لا يكف عن ترديد هتافات وشعارات مغرية.
زيارة أردوغان لتونس يُراد لها (استراتيجيا) أن تكون أشبه بعملية "فتح ناعم" تستبق "حربا قادمة" في المغرب العربي.
مؤتمر كوالالمبورعلى خط التنافس الاستراتيجي بين واشنطن وبكين
"قمة كوالالمبور" ما بين الحلم والتحدي
"نفرة كوالالمبور".. الآمال والتحديات؟!
على وقع محاكمات التيك توك في تونس.. الحرية الأخلاقية والمسؤولية (2-2)