1- سيادة الشعب وتودد المترشحين
أيام معدودات تفصل التونسيين عن موعد انتخاب رئيسهم الجديد، والمشهد السياسي التونسي في إيقاع حركي سريع، وفي تداخل لمشاريع ووعود وقواميس خطاب.
منسوب الحرية الذي ارتفع بعد هروب من علي في 14 كانون الثاني/ يناير 2011؛ أنتج حالة سياسية لم يعرفها التونسيون منذ وثيقة استقلالهم في 20 آذار/ مارس 1956، فلم يصل عدد الأحزاب من قبل ولا عدد المرشحين للرئاسة أو للبرلمان؛ إلى ما وصل إليه اليوم من الكثرة والتنوع والتشابه أيضا.
ما يفخر به التونسيون اليوم ويعبرون عنه باعتزاز أن كل المرشحين لأي منصب في الدولة لا يُخاطبهم إلا بتواضع وتودد، ولا يتعامل معهم إلا كأصحاب سيادة وقرار، وأنهم هم من يُعلي وهم من يُنزل أي سياسي وأي مسؤول في الدولة.
تابع التونسيون على إحدى القنوات الخاصة "مناظرة" بين عدد من المترشحين للرئاسة، ظلوا واقفين ساعتين ونصف الساعة تماما كما التلاميذ النجباء؛ يريدون إثبات جدارتهم بالرئاسة ويطمع كل منهم في استمالة مزاج التونسيين نحوه.
2- مزاج التونسيين بين الثورية والواقعية
ينقسم مزاج التونسيين المهتمين بالشأن الوطني والمتابعين للموسم الانتخابي بين:
أ- تيار أشواق الثورة
وهو تيار مُشكلٌ ممن تغمرهم أشواق الثورة الذين يصرون على ضرورة استكمال المسار الثوري؛ بمحاسبة الفاسدين ومنع عودة المنظومة القديمة إلى المشهد السياسي وإلى الحكم، كما يحملون بعض ضحايا الاستبداد مسؤولية تعثر المسار الثوري؛ حين تراجعوا عن منهج "الحسم" مع المنظومة القديمة وحين قبلوا بـ"التوافق" معهم على طريقة في الحكم، وفي تسوية الملفات الأمنية والحقوقية والسياسية.. المُفعمون بأشواق الثورة هؤلاء لهم مرشحون يأملون فوز أحدهم برئاسة الدولة، من مثل رئيس الجمهورية السابق الدكتور منصف المرزوقي أو الدكتور محمد عبو رئيس التيار الديمقراطي، وهو تيار سياسي يشهد منذ 2014 تناميا شعبيا أكدته انتخابات 2014 وانتخابات البلدية في أيار/ مايو 2018.
بعض الأسماء المحسوبة على الخط الثوري، من مثل الأستاذ المحامي الشاب سيف الدين مخلوف أو أستاذ القانون قيس سعيد، لا يبدو ترشحها إلا لتغذية الروح الثورية والتضييق على مرشحي المنظومة القديمة؛ دون انتظار تحقيقها نتائج جادة.
بعض مرشحي المعارضة، مثل حمة الهمامي ومنجي الرحوي وغيرهما، ليس لهم حظوظ أيضا في تجاوز الدور الأول؛ بسبب تصدع الجبهة الشعبية وعدم اتفاق مكوناتها على مرشح واحد.
ب- تيار مقتضيات الدولة
وهو في الغالب تيار "التوافق" الذي تشكل بعد اغتيال الشهيدين شكري بلعيد في 6 شباط/ فبراير 2013 ومحمد البراهمي في 25 تموز/ يوليو 2013، وبعد اعتصام الرحيل الذي كاد يعصف باستقرار البلاد، وخاصة بعد الانقلاب على مرسي ونهاية حكم الإخوان بمصر.
هذا التيار "التوافقي" مشكل أساسا من حركة النهضة ومشتقات النداء المتشقق على نفسه، وخاصة شق رئيس الحكومة يوسف الشاهد، رئيس حزب "تحيا تونس"، كما يمكن اعتبار حزب مهدي جمعة، رئيس حزب "البديل التونسي" ورئيس الحكومة السابق، ضمن "التيار التوافقي"، رغم ما يصرح به عدد من المترشحين للرئاسة بأنهم لن يتحالفوا مع حركة النهضة، وهو كلام لا يعتبره المراقبون إلا كلاما انتخابيا؛ لأن نتائج الانتخابات هي التي ستفرض التوافقات.
"التيار التوافقي" أو تيار "مقتضيات الدولة" هو تيار يدعو إلى مراعاة الواقع الاقتصادي للبلاد التونسية، وعلاقاتها بالخارج ومصالحها مع الدول الكبرى ومع الجهات المقرضة والمانحة.. هذا التيار يلتزم بتعهدات الدولة ويحترم علاقاتها التقليدية، وهو تيار ينتهج المنهج البورقيبي في الواقعية والتدرج والنأي بالنفس عن سياسة المحاور، ولا يرفع شعارات ثورية ولا يتكلم في السيادة الوطنية بمفهومها الثوري.
ثمة مزاج واسع لدى تونسيين كثيرين ينسجم مع هذا التيار، وسيُصوّت لأحد المرشحين الممثلين له، من مثل عبد الفتاح مورو أو يوسف الشاهد أو مهدي جمعة أو عبد الكريم الزبيدي.
استطلاعات الآراء تضع هذه الأسماء دائما في أعلى سُلم الترتيب، إضافة للمرشح السجين نبيل القروي، وهو خارج تصنيفنا لتيار "مقتضيات الدولة" لعدة اعتبارات.
3- تداخل الأمزجة وحظوظ التنسيق
بعض المرشحين يصدرون عن معين واحد، ويرفعون نفس الشعارات ويتقاسمون نفس الجمهور، ولذلك يدعو البعض إلى ضرورة تنازل عدد من المرشحين لمرشح واحد يكون أوفرهم حظا.
البعض يدعو إلى اعتبار عبد الفتاح مورو مرشح الدولة والثورة معا؛ لكونه مرشح حزب كبير منظم وفاعل.. آخرون يدعون إلى التنازل للمنصف المرزوقي لكونه صاحب تجربة، وهو يمثل التيار الثوري وسيتصدى للمنظومة القديمة التي لم تقدر عليها حركة النهضة.
وجود مرشحين متقاربي الانتماء، مثل المرزوقي ومورو وعبو ومخلوف وحمادي الجبالي، يمكن أن يكون إيجابيا في استجماع أكثر ما يمكن من الناخبين المؤمنين بالثورة، على أن تتم في الدور الثاني دعوتهم إلى دعم مرشح واحد، ولكن أيضا يمكن أن يكون هذا العدد من مرشحي أشواق الثورة سببا في تشتت الأصوات، ما يحرمهم جميعا من الذهاب إلى الدور الثاني، وهو ما يفتح الطريق لأحد مرشحي المنظومة القديمة.
المواقف ليست دائما نتيجة تقديرات سياسية وقراءات مختلفة للمشهد، بل كثيرا ما تكون نتيجة طبائع نفسية ومصالح شخصية؛ في غير علاقة لا بالثورة ولا بالدولة ولا بالشعب.
على وقع محاكمات التيك توك في تونس.. الحرية الأخلاقية والمسؤولية (2-2)