تصدير: "رجل الدولة يريد أن يعمل شيئا من أجل بلاده. والرجل السياسي يريد من بلاده أن تفعل شيئا من أجله" (رينيه كوتي René Coty)
رغم ما يُغري به تصدير المقال من تعميق المقابلة بين رجل الدولة ورجل السياسة في بلاد يلهج الساسة فيها بـ"مصلحة الدولة العليا"، وهم في الحقيقة وكلاء مصالح شخصية وجهوية وخارجية، ورغم ادعاء الكثير من السياسيين أنهم رجال دولة، فإن هذا المقال لن يكون في بيان تهافت منطقهم، ولا في بيان تناقض وظيفتهم مع الدولة ومؤسساتها ومع السياسة وأخلاقياتها، بل سيكون المقال أساسا لنسف ادعاء مركزي من ادعاءات ورثة المنظومة القديمة وحلفائهم، وهو ادعاء يمكن صياغته على الشكال التالي: يتمتع أزلام النظام السابق بأفضلية سياسية على خصومهم، لأنهم "رجال دولة" اشتغلوا في الإدارة والسياسة، على خلاف خصومهم الذين كانوا إما على هامش النظام أو في معارضته، وهو ما يجعلهم فاقدين للأهلية في إدارة الشأن العام، وعاجزين عن التحكم في دواليب الدولة.
ونحن لا نقصد بالأزلام هنا رموز التجمع فحسب (أي المنخرطين في الحزب الحاكم قبل الثورة)، بل نقصد كل المنتمين إلى النظام والمستفيدين منه في هوامشه القانونية وأذرعه الثقافية والنقابية والحقوقية. وهؤلاء في الغالب ينتمون إلى ما يُسمى بالقوى الحداثية أو العائلة الديمقراطية التي كانت تقصي الإسلاميين من الفضاء العام، ومن آليات توزيع السلطة والثروة. وقد أثبتت الثورة ومساراتها (منذ المجلس التأسيسي، مرورا بفترة الترويكا وانتهاء بعودة ورثة التجمع إلى واجهة السلطة)، أنّ القسمة التي كانت قائمة في عهد المخلوع بين نظام حكم ومعارضة (قانونية أو غير معترف بها)، أو بين أعراف ونقابات عمالية، أو بين ليبراليين ويساريين، ليست إلا قسمة "وظيفية" احتاجها نظام الحكم للإيهام بوجود واقع حداثي ديمقراطي، ولكنها لم تكن تُعبر عن تناقضات حقيقية تخترق بنية السلطة.
لعل من أهم مميزات الأنظمة الاستبدادية التابعة هو شيوع الاستعارات والمجازات؛ التي تتحوّل بالتراكم وبقوة القمع الأيديولوجي والبوليسي إلى حقائق وبداهات يصعب التشكيك فيها. فرغم أن المرحوم بورقيبة كان زعيما لنظام (جهوي زبوني تابع) مثّل نوعا من الاستعمار الداخلي أو الاستعمار "بالمناولة" (يمكن إثبات لا وطنيته بالأرقام والتصريحات والسياسات الرسمية ذاتها، انظر الكتاب المرجع للمؤرخ التونسي الصغير الصالحي: "الاستعمار الداخلي والتنمية غير المتكافئة، منظومة التهميش في تونس نموذجا")، فإن آلة الدعاية ومزوّري الواقع والتاريخ قد نصّبوه مرجعا أعلى للوطنية، ونجحوا في إحياء "البورقيبية" وتحويلها إلى سردية "توافقية" منعت بناء أية سردية متطابقة مع اللحظة التاريخية، أي مع استحقاقات الجمهورية الثانية.
رغم قوة المقاومة التي يبديها نظام الحكم و"كلاب حراسته الأيديولوجية" تجاه أي تشكيك في أساطيره التأسيسية، فإن مناخ الحريات الذي أوجدته الثورة قد جعل العديد من الأسئلة المقموعة تطفو على سطح السجال العام، وإن بصورة محتشمة. ومن تلك الأسئلة التي تطمح إلى جعل الأسماء تدور على مسمياتها وتضييق عوالم المجاز التي دمّرت الواقع: هل عرفت تونس حقا "رجال دولة"، أم إنها لم تعرف إلا رجال نظام حكم جهوي زبوني تابع (في لحظتيه الدستورية والتجمعية)؟ ولأن رجال الدولة يقوّمون بمحصول سياساتهم، فإنه يكفي أن نقوم بمقارنة بسيطة بين حال تونس منذ استقلالها الصوري عن فرنسا؛ وحال بعض البلدان الآسيوية أو حتى الأفريقية التي استقلت في الفترة نفسها، والتي لا تمتلك الثروات الطبيعية لتونس ولا موقعها الاستراتيجي، ولا ثلاثة آلاف سنة حضارة، كما يحلو لسدنة النظام أن يصفوا بلادنا (لتتفيه الهوية العربية الإسلامية وللتأسيس للدولة). الأمة كما أرادها المرحوم بورقيبة قبل تحويلها إلى دولة الساحل والشبكات الزبونية التابعة".
إن الحديث عن "رجال دولة" يفترض جملة من المقدمات التي هي شرط إمكانهم ذاته. فرجال الدولة لا يمكن أن يظهروا في "محميات" أو "شبه مستعمرات"، أو في بلدان تفتقد أبسط مقومات السيادة؛ لأنهم في هذه الحالة لن يكونوا رجال دولتهم، بل رجال الدول المتنفذة في الشأن الداخلي لبلدانهم. كما أن الحديث عن رجال دولة يفترض ولاء هؤلاء للدولة ومؤسساتها وقوانينها، وليس لأنظمتهم أو جهاتهم أو مصالحهم الشخصية في التدرج الاجتماعي، وتحقيق ذواتهم بالتماهي مع سياسات "الحاكم"، ومن يملي عليه سياساته في الداخل والخارج.
ومن اليسير على كل دارس للتاريخ التونسي أن يثبت انعدام هذه الشروط الضرورية لظهور "رجال الدولة" بالمعنى العلمي للكلمة. فكل من سعى إلى التصدر في السياسة أو في الإدارة كان يعلم يقينا أنه "رجل نظام"، وكان يعلم أيضا أن المحدد لنجاحه ليس الكفاءة أو الوطنية، بل الأصول الجهوية والشبكات الزبونية حينا، والولاء للنظام والقدرة على خدمة المافيات الحاكمة في كل حين.
ختاما، فإن غياب حقل سياسي"طبيعي" زمن المخلوع، ورسوخ الآليات غير القانونية والعقلانية للتدرج المهني والسياسي التي كانت مهيمنة على نظام الحكم في لحظتيه الدستورية والتجمعية، بالإضافة إلى غياب مشروع "وطني" حقيقي هدفه تحقيق السيادة وتجاوز منطق الجهويات والشبكات الزبونية، كل ذلك يجعل من "الأزلام" الذين ينتحلون صفة "رجال الدولة" جسما لا وظيفيا، أو معرقلا لاستحقاقات الثورة حتى في حدها الإصلاحي الأدنى. فهؤلاء قد تشكلت شخصياتهم بعوامل لا علاقة لها باحترام القانون، ولا بمفهوم تساوي الفرص. ولذلك، فإنهم كانوا يتحركون وما زالوا ضمن ثنائية "الملّاكة/ الكرّاية" (أو المالكين والأجراء)، التي لم يجد المرحوم الباجي قائد السبسي حرجا في التصريح بها في إحدى خطبه.
ولا شك في أن هناك من يعدّ الدولة بستان "أصحاب الدماء الحمراء" دون سواهم. ومن لا يخفي حنينه للنظام السابق، لا يمكن أن يؤسس لجمهورية المواطنة، بل سيكون مجرد خادم لنظام الحكم الجهوي- الزبوني، وذلك مهما تعلمنت مزايداته بالوطنية وغيرها من مفردات "رجال الدولة" الحقيقيين.
كيف ستستثمر النواة الصلبة للحكم رحيل الرئيس التونسي السابق؟
الديمقراطية التي أحضرت ترامب وجونسون
تونس تُودّع آخرَ قادتها التاريخيين
قراءة في مواقف السلطة و"القوى الديمقراطية" التونسية من الثورة السورية