تتنزل هذه القراءة الموجزة في إطار ما حققته ثورات الربيع العربي من كشف وما أنجزته من تعرية لمختلف المكونات التي تؤلّف المشهد العربي وخاصة الطيف الفكري السياسي منه.
يمكن الجزم بأن هذا الكشف هو أخطر وأعمق ما أحدثه الزلزال العنيف الذي ضرب القواعد الصلبة للبناء الفكري في المنطقة العربية ورفع الغبار عن الوزن الحقيقي لكل مكون ولمختلف الأدوار التي ينهض بها في بنية المشهد وفي توجهاته.
أول النتائج هي العجز الكبير الذي أظهرته النخب السياسية والفكرية في إنجاح ثورات الربيع وفي دعم مسارها الانتقالي خاصة وهو الأمر الذي عرفته كل الدول التي عرفت ثورات شعبية.
بل الأدهى والأمرّ من ذلك هو أن النخب العربية الفكرية شاركت وبقوة في إجهاض تجربة الربيع وفي إعادة منظومة الاستبداد إلى الواجهة من جديد فأعلنت العداء لحرية الشعوب التي طالما تشدقت بأنها تناضل من أجلها.
لكن أهم ما يلاحظ في حصاد المشهد الثوري اليوم هو موجة الشيطنة والعداء المعلن للمكون الإسلامي. وتشمل تسمية "المكون الإسلامي" الحركات السياسية ذات المرجعية الإسلامية وخاصة منها حركة الإخوان المسلمين.
حيث يمثل الإخوان دون شك أهم مكونات الطيف السياسي العربي في كافة الدول وخاصة مصر وذلك منذ منتصف القرن الماضي وحتى قبل ذلك.
لكن رغم الوزن التاريخي والسياسي والاجتماعي للحركة وامتدادها الأفقي والعمودي فإنها تشهد منذ سبع سنوات موجة من الشيطنة غير المسبوقة وهي موجة تسمح بإبداء الملاحظات التالية:
لم يشفع الوزن التاريخي للحركة في تخطي الامتحان الكبير الذي فرضه الربيع العربي وثوراته المفاجأة ولم تمكنه خبرته التاريخية في التعامل مع السلطة من اجتياز التحديات التي فرضتها آليات الدولة العميقة فرضا وخاصة في مصر.
فقد نجحت الدول العميقة ممثلة بالنظام العسكري في الإطاحة بأول تجربة ديمقراطية مدنية داخل أهم الدول العربية وأثقلها ديمغرافيا واستراتيجيا. لكن من جهة أخرى أظهرت حركة الإخوان المسلمين عجزا كبيرا وتخبطا أكبر في الكثير من الملفات والقضايا سواء منها المتعلقة بالثورة نفسها أو بالسياق الانتخابي ما بعد الثورة في مصر أو في تونس أو في ليبيا.
هذا التخبط والفشل الذريع ـ المصحوب دائما بخطاب الضحية التاريخية ـ هو الذي وجّه أخطر الضربات إلى الثورات وهو الذي عجّل بانتكاستها بل ودفع كثيرين من أعداء الثورة إلى الاصطفاف مع القوى الانقلابية.
ثم إن مجموعة الذرائع التي قدمها الإخوان المسلمون لتفسير فشل ممارستهم السياسية خلال الثورة وبعدها لا تبدو مقنعة خاصة وأنها تسعى في أغلبها إلى استعادة خطاب الضحية التاريخية من ناحية وإلى وضع أسباب الفشل دائما على الخارج وعلى الآخرين.
تتمثل الملاحظة الثانية في العداء المفاجئ الذي أظهرته قوى مدنية وسياسية وفكرية لجماعة الإخوان ولفترة حكمهم. هذا العداء المعلن طرح منذ بداية الثورات جملة من نقاط الاستفهام حول السبب العميق لحالة عداء المجاني التي ترتقي إلى الحقد الأعمى والكره المرضي لجماعة الإخوان.
قد نختلف معهم ومع خياراتهم السياسية والفكرية بشكل كبير لكن هذا الاختلاف لا يفسر موضوعيا حالة العداء التي شهدناها مؤخرا في خطابات أغلب الطيف السياسي والفكري العربي.
لقد أجمعت التيارات القومية واليسارية الشيوعية الماركسية واللبرالية على شيطنة الإخوان وعلى ربطهم بالعنف والتطرف وحتى بالإرهاب. بل إن حركات تنتمي إلى الطيف الإسلامي من الاتجاهات السلفية أو الأصولية أو غيرها من حلقات الطيف الإسلامي أعلنت هي الأخرى العداء خطابا وممارسة لحركة الإخوان المسلمين.
صحيح أن نقد الأداء السياسي للحركة يمثل واجبا فكريا على النخب العربية لكن ارتقاءه السريع إلى مطاف العداء والشيطنة لا يجعل منه عملا فكريا نقديا بقدر ما يحيل بأغلبه على خانة الفعل الاستخباراتي تارة أو ردّة الفعل المرضية البائسة تارة أخرى. كيف يمكن مثلا أن نفهم اصطفاف القوى السياسية العربية إلى جانب أطروحات الأنظمة وخياراتها ـ الدموية غالبا ـ ورفض التعاطف أو حتى احترام الاختلاف مع قوى كانت إلى زمن قريب مصطفة معها في نفس خندق المعارضة ؟ لماذا تنجز التيارات الفكرية العربية اليوم نفس الفعل الذي كان ينجزه النظام الدموي العربي منذ فترة الاستقلال المزيف عن الاحتلال الأجنبي ؟
آخر الملاحظات تدور حول الأدوار الخارجية لمجال الربيع العربي سواء عربيا أو دوليا ودورها في شيطنة المكون الإسلامي. فقد أجمعت القوى الدولية على تفعيل العداء التاريخي القديم لكل ما هو إسلامي أو مرتبط بالإسلام ووجدت ضالتها في حركة الإخوان المسلمين أو من تسميهم بالإسلام السياسي أو الإسلاميون
تاريخيا ما كان يمكن للقمع والتعذيب والقتل الذي تعرض له أعضاء الحركة وأفرادها ولا يزالون إلى اليوم ليكون لولا الضوء الأخضر الدولي. وليس الإطراء الكبير الذي يحظى به الجنرال الدموي في مصر من قبل الأبواق الدولية وخاصة الصهيونية الرسمية إلا تأكيدا على الدعم الدولي الذي يحظى به رغم كل المجازر والمذابح التي ارتكبها.
أما الدول العربية والدولية التي لم تشارك في شيطنة الجماعة بل دافعت عنها واعترفت بها إقليميا مثل تركيا أو عربيا مثل قطر فإنها دول تعرضت إلى محاولتين انقلابيتين تهدفان إلى تغيير نظام الحكم. إن شيطنة دولة تركيا رغم نجاحها الاقتصادي والاجتماعي الكبير وكذلك شيطنة قطر رغم كل إنجازاتها الإقليمية والعربية لا تخرجان عن المشهد العام المعادي للمكون الإسلامي وحقه في الممارسة السياسية التي أوصلته إليها صناديق الانتخاب في تونس وفي مصر.
لا يمثل مشهد الحصاد هذا غير واحد من الدروس المستخلصة من ثورات الربيع العظيمة وهي خلاصات تفرض على الجميع مراجعات عاجلة من أجل إيقاف النزيف الحاد الذي يعرفه البناء الحضاري للأمة بشكل عام. إن الاختلاف الفكري والثقافي وتباين الرؤى السياسية بل وتناقضها يشكل ضرورة من ضرورات البناء والفعل عملا بحتمية مبدأ التنوع.
أما رفض الآخر وإقصاؤه وشيطنته فإنها لا تصب في غير صالح أعداء الأمة ممن يخافون نهضتها ويعملون على تمزيق أوصالها بكل الطرق والوسائل والأساليب المتاحة.