أنهى المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية، المنعقد نهاية الأسبوع الماضي، الجدل برفض تعديل المادة 16 من النظام الأساسي، وبالتالي رفض فسح المجال لبنكيران لتولي منصب الأمين العام لولاية ثالثة، بفارق غير كبير بين المؤيدين لفكرة التعديل (101 صوت) والرافضين له (123 صوتا). غير أن هذا القرار الحاسم الذي اتخذ باعتماد آلية ديمقراطية داخلية، سيترك أسئلة كثيرة، سواء على مستوى فهم أسبابه أو على مستوى استشراف آثاره.
قد يبدو في الظاهر أن الجدل الثائر عند قيادات وقواعد إسلاميي المغرب يحمل خلفية تنظيمية أو قانونية صرفة، لكن تتبع ورصد مخرجات هذا الخلاف؛ يُظهر أن الخلاف في جوهره سياسي، يعكس تباين وجهات النظر بين خطين سياسيين يتعايشان داخل هذا الحزب: خط يرى أن ما حدث بعد الإعلان عن نتائج انتخابات 7 تشرين الأول/ أكتوبر يؤشر على مس خطير بالمسار الديمقراطي، وأنه يقترب من أن يكون انقلابا على الشرعية الديمقراطية، ومحاولة تدخل الدولة لصناعة واقع سياسي يعاكس الإرادة الشعبية المعبر عنها في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، ولا يرى خيارا آخر غير استعادة المبادرة، ثم لا يرى رمزا قادرا على خوض هذا الاختبار سوى عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة المعفى. وخط آخر، لا يجادل في حصول هذا التراجع، لكنه يقدر بأن الحفاظ على المكتسبات السياسية للحزب، تقتضي في هذه المرحلة الدقيقة قدرا من التراجع التكتيكي، وعدم الدخول مع الجهات المؤثرة في صناعة القرار السياسي في لعبة الشد والجدب، وأنه لا بأس في هذه المرحلة من الحفاظ على الحد الأدنى من المكتسبات؛ بدل تبديد رصيدها كاملا، واستنزاف جهد الحزب في خلق واقع الانسداد من جديد (ما يسمى مغربيا بالبلوكاج)، وأنه لا خيار لتجنب هذا السيناريو سوى الإبقاء على المادة 16 كما هي، ومن ثم سد الطريق أمام عودة جديدة لبنكيران كأمين عام لحزب العدالة والتنمية؛ في هذه المحطة الدقيقة، خصوصا أن هذا السيناريو سيضع الحزب أمام حرج الازدواجية، أو المشي برأسين (حزبي وحكومي)، على حد تعبير هذا الخط.
القرار في جوهره عكس انحياز جزء مقدر من برلمان الحزب إلى منطق المحافظة والاستمرارية، والتخوف من المستقبل غير الواضح
مهما يكن الخلاف السياسي، فإن تركيبة قرار المجلس الوطني وحيثياته؛ أبانت عن معطيات سوسيولوجية حاسمة أعادت النقاش من جديد، حول صراع المبدئية والبراغماتية في العقل السياسي للإسلاميين، ذلك أن هذا القرار في جوهره عكس انحياز جزء مقدر من برلمان الحزب إلى منطق المحافظة والاستمرارية، والتخوف من المستقبل غير الواضح، بحجة أن إعطاءه إشارة قوية على رغبته في استعادة المبادرة والتمكين لعبد الإله
بنكيران، برمزيته المقاومة للتراجع الديمقراطي، ستخلق واقعا سياسيا جديدا سيؤثر - لا محالة - على سير الحكومة، وسير المؤسسات المنتخبة، وربما حتى على مستقبل هذه المؤسسات، ويمكن أن يدخل الحزب في نفق لا يبدو أنه يمتلك قدرة على الخروج منه بهذه الوضعية التي يوجد بها!
لكن نزعة المحافظة هذه التي انتصرت؛ لم تخف في المقابل - وبمنطق عددي مقدر - وجود نزعة نضالية تقرأ الواقع السياسي باستحضار للسياق السياسي ودور الفاعلين فيه، وانتظارات الشعب، أكثر مما تستحضر فقط مكتسبات الحزب. إذ تطرح في الجملة المؤشرات التي تبرز تراجع المسار الديمقراطي وانتشار السلطوية من جديد، وعجز قيادات حكومية في إيقاف هذا المسار، وبداية مسلسل ضعف شعبية الحزب من خلال نتائج الانتخابات البرلمانية الجزئية (المعادة بقرار من المجلس الدستوري)، وأيضا صورة الحزب في وسائل التواصل الاجتماعي التي بدأت تتضرر بشكل دال؛ من خلال تعبيرات الجمهور والشباب منه على وجه الخصوص.
المهم في هذا القرار هو أنه منح السلطوية في المغرب متنفسا لترتيب خارطتها، بعيدا عن كابوس وعقدة بنكيران
من السابق لأوانه اليوم الحكم على مستقبل هذا الخيار الذي انتهى إليه إسلاميو
المغرب في قرار برلمان حزبهم، فالجميع يرى أن المهم هو أن الحزب التزم الآلية
الديمقراطية في قراره، وحصّن وحدته وتماسكه، وتحمل المسؤولية الجماعية في اعتماد القرار، وما بعد ذلك يعتبر تفاصيل واجتهادات وتقديرات، يمكن أن يثبت الواقع صوابيتها أو عدم وعيها بشروط اللحظة السياسية. لكن المهم في هذا القرار هو أنه منح السلطوية في المغرب متنفسا لترتيب خارطتها، بعيدا عن كابوس وعقدة بنكيران.
صحيح أن السلطوية في المغرب تعيش مخاضاتها الخاصة، بل تعيش أزمة أعمق من أزمة
الإسلاميين الذين وجدوا سبيلا لاحتوائها بإقرار الديمقراطية الداخلية للحسم في القرار، ولو كان مرجوحا سياسيا عند البعض، لكن بالنسبة للسلطوية، فهي إلى الآن لم تنجح في تجهيز خيار بديل لخسارتها في انتخابات السابع من تشرين الأول/ أكتوبر؛ يضمن توازنا سياسيا يجنبها احتلال الإسلاميين صدارة المشهد السياسي. فإلى اليوم، ثمة خلاف حاد على أعلى المستويات في تقدير مستقبل حزب الأصالة والمعاصرة (الحزب المدعوم من السلطة)، أو على الأقل مستقبل قيادته المقربة إلى بعض الأوساط، كما يرشح خلاف آخر على مستوى تدبير التعديل الحكومي، وهل يتجه مرة أخرى نحو إعادة تعديل موازين القوى وصناعة واقع سياسي أكثر بعدا عن نتائج انتخابات السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، أم يتجه فقط إلى تعويض المقاعد الوزارية بأشخاص من
الأحزاب نفسها؟ وإلى أي حد يمكن الاستثمار في زعيم الأحرار واعتباره بطاقة رابحة لتحقيق التوازن السياسي؟
فإذا أضيفت إلى ذلك المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية والمناخية، وأثرها بشكل خاص على الاستقرار الاجتماعي، يزداد الأمر تعقيدا. فقد أظهرت الدولة ارتباكا كبيرا في تدبير حراك الريف، وملف العطش في زاكورة في جنوب المغرب، ولا تزال بعض مؤشرات الحراك تتفاعل. ولا يبدو في الأفق، أمام ارتفاع أسعار الطاقة عالميا، واحتمال تواتر سنوات جفاف - كما تؤشر على ذلك المعطيات المناخية الاستشرافية - أن الدولة تملك خيارات التحكم في الحركات الاجتماعية، إن لم يكن المسار السياسي يمتلك حدا معقولا من المصداقية والثقة، مما يعني في المحصلة أن خيارات الدولة نفسها في إضعاف الإسلاميين محدودة، إن توفر قدر مهم من الممانعة الداخلية التي ينتظر أن تصنعها التجربة الحكومية، أيضا إن توفر إسناد الحزب للحكومة.
التحدي اليوم مطروح على القيادات الحكومية داخل حزب العدالة والتنمية، وأيضا على التيار الحزبي الواسع، لإدراك اللحظة السياسية بحساسيتها الشديدة، وعدم الوثوق بأطروحة "تغول السلطوية واستعدادها لابتلاع الحزب"، وأن المرحلة تقتضي فقط تلقي الضربات والصبر عليها؛ حتى تتغير معطيات الوضع السياسي المحلي والإقليمي والدولي، على حد تعبير أحد القيادات.
الأزمة التي تمر بها الدولة تتطلب من إسلاميي المغرب؛ الجمع بين المقاومة والذكاء السياسي، وذلك بالوعي بشروط المرحلة السياسية الدقيقة
الأزمة التي تمر بها الدولة تتطلب من إسلاميي المغرب؛ الجمع بين المقاومة والذكاء السياسي، وذلك بالوعي بشروط المرحلة السياسية الدقيقة، وإنتاج صيغة جماعية في النضال السياسي تعين على عزل القوة الثالثة المناهضة للإصلاح والراهنة للملكية، أو إقناع الملكية من جديد بأنه لا خيار أمام البلد للصمود في وجه التحديات العاصفة القادمة؛ سوى بتقوية الجبهة الداخلية، وتصحيح الاختلالات التي مست المسار الديمقراطي، وتقوية الإرادة الإصلاحية، من خلال تأكيد معادلة أن الوطن محتاج للملكية، لكن المصلحة العليا للملكية مرتبطة بالالتحام مع إرادة الشعب.