من عجائب الدنيا أن الطاووس
الترامبي المتكبّر مجحود مظلوم، وأن أثرى أثرياء الرئاسة القارونيّة مَبْغِيُّ عليه! فلَكَمْ ظلمتْه لجنة نوبل للسلام وأنكرت صنائعه ومعروفه رغم أنه (في ظنه الذي يبدو أنه جادّ فيه غير كاذب) صانع السلام ومُنهي القتال في كثير من الحروب، بما فيها الحرب بين «أبير ـ بايجان (هكذا يسمي أذربيجان) وأرمينيا (عفوا، بل «ألبانيا»، فذلك هو اسمها الصحيح في قاموسه!).
وقد يكون من الظلم أيضا الجزم بأن ترامب لم يسمع بالفيلسوف الأسترالي الشهير بيتر سينغر، وأنه ربما لم يسمع حتى بالأم تيريزا، ولا علم له بأن من مبادئ الشرائع السماوية أن كل البشر «عيال الله». إذ لو كان يعلم لما أقدم على ما تفوه به الأربعاء من شتائم متشنجة وأباطيل «إثنوغرافية» استعلائية ساذجة (متوارثة عن إمبريالية القرن 19 وضلالات «
العنصرية العلمية») ضد الصوماليين.
لست من قراء بيتر سينغر، وإنما استمعت لبعض محاوراته على راديو بي بي سي 4. وعندما حل ضيفا على جامعة كينغز كولدج في لندن عام 2013 حرصت على أن أشهد محاضرته التي كانت بعنوان «الحياة التي في وسعك إنقاذها» والتي عرض فيها أحد عناصر مذهبه في «فلسفة الأخلاق التطبيقية». وهذا العنصر هو ما يسميه «الإيثار الفعلي»، أي مختلف الوجوه التي يمكن أن يدير بها المرء حياته على مدار تقديم مصلحة الغير على المصلحة الشخصية والتبرع بكل ما فاض عن حاجته من المال والممتلكات، وكل ما يبقى من راتبه الشهري، إلى المحتاجين والضعفاء.
ويحرص سينغر على التنبيه إلى أن مبدأ الإيثار هذا (الذي لا يخفى أنه صيغة علمانية أو دنيوية، أو إعادة تعريف محايدة، لما يعرف في مختلف الديانات باسم أعم وأشمل هو فعل الخير) لا يكون فعليا، أي أخلاقيا بحق، إذا اقتصر أثره على المحتاجين والضعفاء في حي المُؤْثِر أو بلدته أو بلاده فقط، بل إن شرط الفعلية الأخلاقية في الإيثار أن يعمَّم تطبيقه على جميع الضعفاء والمحتاجين من أفراد الأسرة البشرية في جميع أنحاء العالم.
وله في إيجاز هذا المبدأ صورة بليغة مستمدة من أول مقال نشره عام 1972 بعنوان «
المجاعة والوفرة والأخلاق»: تخيل أنك مررت في طريق ذهابك إلى العمل ببِرْكة لمحت في غمارها طفلا وحيدا يغالب المياه وهو على وشك الغرق، وليس ثمة حول البركة شخص سواك. الأرجح أنك سترتمي في الماء دون تردد رغم علمك أنك ستتلف حذاءك الجديد الذي اشتريته قبل أيام قلائل وأن بدلتك ستبتلّ وتتلطخ بالأوحال وأنك ستتأخر عن موعد العمل بساعة على الأقل.
يموت كل عام حوالي عشرة ملايين طفل بسبب الجوع وسوء التغذية والأمراض التي كان يمكن الوقاية منها بسهولة
مبعث هذا الشعور التلقائي بالواجب الأخلاقي نحو الطفل هو أنك تراه رأي العين. ولكن ما هو الفرق بين طفل يغرق أمام عينيك وبين طفل يموت، جوعا أو مرضا، في بلاد بعيدة؟ جواب سينغر أنه لا فرق إطلاقا إذا طبقنا مبدأ الإيثار الفعلي تطبيقا شاملا كاملا. وهذا أساس دعوته إلى وجوب مقاومة مُضمَراتنا وتحيزاتنا التي تجعلنا نقدّم من نرى على من لا نرى ونُؤْثر الأقارب (اجتماعيا أو قوميا) على الأباعد. والرأي عند سينغر أن مبررات تقديمنا القريب على الغريب، أو من نرى على من لا نرى، مبررات غير عقلانية لا يجوز الاعتداد بها إذا نحن انطلقنا من منطلق مبدئي بسيط هو المساواة بين البشر، جميع البشر، في الكرامة والحقوق، بصرف النظر عن موطن النشأة ولون البشرة.
وبما أن من المحتمل أن يكون ثمن الحذاء الذي تضرر أثناء إنقاذ الطفل يتراوح بين خمسين ومائة دولار، فإنه ليس منافيا للمنطق الأخلاقي التطبيقي القول إن في وسع (تمهيدا للقول: إنه من واجب) الشخص المعني (والأمر يتعلق عند سينغر بمواطني البلدان الثرية في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية وبلاده أستراليا) أن يتبرع بهذا المبلغ للمنظمات والجمعيات العاملة في مجال إغاثة الأطفال في البلدان الفقيرة، حيث يموت كل عام حوالي عشرة ملايين طفل بسبب الجوع وسوء التغذية والأمراض التي كان يمكن الوقاية منها بسهولة لو توفرت أبسط وسائل التطعيم والوقاية.
الذي لاحظته في قاعة المحاضرات المزدحمة في كينغز كولدج أن الطلاب، من البريطانيين وسواهم، كانوا متجاوبين مع سينغر وأن أسئلتهم وتعليقاتهم تؤكد أنهم مقتنعون بمبدأ الإيثار، وقد كان بعضهم يستفسر عن الطرق العملية لتطبيقه عندما يدخل مجال العمل ويبدأ في تقاضي راتب شهري.
القدس العربي