رأى كثيرون
أن اعتماد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لما يُسمى "خطة السلام" التي
قدّمها الرئيس الأمريكي دونالد
ترامب بشأن
غزة، بمثابة تنصيب للولايات المتحدة، إن
لم يكن لترامب نفسه، بصفتها المستعمر الجديد لغزة ولشعبها. فمن الواضح أن الخطة الأخيرة
ليست إلا امتدادا لخطط ترامب السابقة بشأن غزة، التي أعلنها في شباط/ فبراير الماضي،
والتي سعت إلى سيطرة أمريكية كاملة على القطاع كمشروع استثماري.
لقد
استندت تلك الخطة منذ البداية إلى تصور يقوم على تفريغ غزة من جميع سكانها
الفلسطينيين
بهدف تحويلها إلى "ريفييرا الشرق الأوسط" الأمريكية، والتي وصفتها محطة
"سي. إن. إن"، المساندة لإسرائيل، بأنها نموذج لـ"
استعمار القرن الحادي
والعشرين". ولم يقتصر تنصيب الولايات المتحدة سيّدا استعماريّا جديدا على غزة
على الدعم النشط الذي قدّمته الأنظمة العربية والإسلامية العميلة لواشنطن، فضلا عن
تأييد السلطة الفلسطينية العميلة والمتعاونة مع الولايات المتحدة وإسرائيل معا، بل
حظي أيضا بمساندة الجزائر -وهي مستعمرة استيطانية سابقة- إذ يبدو أن نظامها يطمح
بدوره إلى دخول نادي العملاء العرب لواشنطن. أما روسيا والصين، اللتان امتنعتا عن
التصويت، فيبدو أنهما غير معنيّتين فعليا بمصير الشعب الفلسطيني.
لم
تكن هذه المحاولة الأولى للولايات المتحدة في السعي إلى استعمار وطن الفلسطينيين؛ بل
يعود ذلك إلى بدايات القرن التاسع عشر، عندما أوفدت البعثات التبشيرية الأمريكية إلى
فلسطين عام 1821. غير أن مكوثها لم يدم طويلا؛ إذ انتقلت تلك البعثات عام 1844 إلى
سوريا ولبنان بفعل المنافسة الشرسة التي فرضتها البعثات البروتستانتية البريطانية،
الأمر الذي جعل وجود المبشرين الأمريكيين في فلسطين آنذاك هامشيّا ومحدود الأثر.
لم تكن هذه المحاولة الأولى للولايات المتحدة في السعي إلى استعمار وطن الفلسطينيين؛ بل يعود ذلك إلى بدايات القرن التاسع عشر
ومع
تجدد الخطط المسيحية الأوروبية لاستعادة السيطرة على فلسطين مطلع القرن التاسع عشر،
انخرطت الحركات الألفية البروتستانتية الأمريكية فيما عُرف لاحقا باسم "الحملة
الصليبية السلمية"، وأنشأت مستوطنات زراعية في يافا بانتظار "المجيء الثاني
للمسيح". وقد علّق المستوطنون الأمريكيون آمالهم على تحويل بضعة آلاف من
اليهود الليتوانيين المتدينين إلى الهرطقة البروتستانتية وتعليمهم الزراعة، لكنهم
اعتبروهم "كسالى" ومعادين لمحاولات تنصيرهم. وكان هؤلاء اليهود قد وصلوا
إلى فلسطين في أوائل القرن التاسع عشر استجابة لتوقّعات دينية "بقدوم المسيح
المنتظر".
استقرت
مجموعة من السبتيين الأمريكيين (الميلريين) في بيت لحم عام 1851، إلى جانب مستوطنين
مسيحيين أوروبيين في قرية أرطاس، قبل أن ينتقلوا لاحقا إلى يافا حيث أسسوا مستعمرة،
لم تعمّر طويلا، سمّيت "جبل الأمل". وفي عام 1854 أنشأت عائلة ديكسون،
مستعمرة أخرى عُرفت باسم "مستعمرة البعثة الأمريكية" في يافا، لكنها
اصطدمت بمقاومة فلسطينية محلية، إذ تعرّضت للهجوم عام 1858، ما أسفر عن مقتل عدد
من أفرادها وعودة الباقين إلى ماساتشوستس. وعلى إثر ذلك، أرسلت الولايات المتحدة الفرقاطة
"يو إس إس واباش" إلى ساحل فلسطين للضغط على العثمانيين لمحاكمة
المسؤولين عن الهجوم.
في عام
1866، وصل حرفيون ومزارعون أمريكيون من "حركة الألفية" من ولاية "مين"
لتأسيس مستعمرة جديدة في يافا. وقد كانت مستعمرة آدامز، التي سُميت على اسم زعيمها
الإنجيلي المتعصب والمورموني السابق جورج واشنطن جوشوا آدامز، تضم 156 عضوا، لكنها
لم تدم طويلا؛ إذ التقى آدامز بالرئيس أندرو جاكسون -الذي ارتكب مذابح بحق السكان
الأصليين في أمريكا- وطلب منه التدخل لدى العثمانيين لدعم الجهود الاستعمارية الاستيطانية
الأمريكية. وقد شبّه آدامز الاستعمار الاستيطاني في فلسطين بنظيره الأمريكي في
القارة الأمريكيّة.
أثار
وجود المستوطنين غضب الفلسطينيين، مما دفع العثمانيين إلى الاحتجاج لدى السفير الأمريكي
في القسطنطينية ضد "طرد السكان الأصليين من حقولهم بواسطة مستعمرة من اليانكي".
إلا أنّ فشل المشروع وتراكم الديون أجبر آدامز على المغادرة بعد عامين فقط. وكان
آدامز قد أعلن منذ البداية أن مستعمرته تهدف إلى "تهيئة الأرض لعودة اليهود"
تمهيدا للمجيء الثاني للمسيح. وبعد تفكك المستعمرة، لم يبقَ في فلسطين سوى 26
مستوطنا أمريكيا.
أما
آخر المحاولات الأمريكيّة البروتستانتية الإنجيلية لإقامة مستوطنات في فلسطين فكانت
عام 1881، عندما قاد هوراشيو وآنا سبافورد من شيكاغو ستة عشر مستعمرا بهدف تسريع "المجيء
الثاني للمسيح". وانضم إليهم 55 بروتستانتيا أصوليا سويديا عام 1896، ليصل إجمالي
عددهم إلى نحو 150 مستوطنا بحلول مطلع القرن العشرين. وقد استمرت مستوطنتهم في
القدس حتى أواخر خمسينيات القرن العشرين.
مع
نهاية الحرب العالمية الأولى، برزت مخططات جديدة لدى الإدارة الأمريكية حول احتمال
تولّي الولايات المتحدة الانتداب على فلسطين. ففي حزيران/ يونيو 1919، وصلت لجنة كينغ-كرين
التي أرسلها الرئيس وودرو ويلسون، إلى فلسطين، بهدف استطلاع رغبات مواطني الأناضول
وسوريا ولبنان وفلسطين، لتخفيف حدة التنافس البريطاني الفرنسي في توزيع مناطق نفوذهما.
أجرى أعضاء اللجنة مقابلات مع عشرات الفلسطينيين المنضوين في الجمعيات الإسلامية-المسيحية
التي تأسست بعد الحرب لمعارضة الاستعمار البريطاني والمشروع الصهيوني، إضافة إلى
مثقفين من النوادي الفكرية والاجتماعية التي أنشأها الفلسطينيون قبل الحرب. وقد
أجمع جميع من قابلتهم اللجنة على المطالبة باستقلال فلسطين، فيما دعا الوطنيون
الشباب إلى استقلالها ووحدتها مع سوريا. كما عارض كلّ الفلسطينيين الذين قابلتهم
اللجنة -من دون استثناء- مشروع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني.
قدمت "لجنة
كينغ–كرين "تقريرها إلى مؤتمر
باريس للسلام في آب/ أغسطس 1919، مؤكدة أن شعب فلسطين يطالب بالاستقلال، وإن كانت
اللجنة قد ادعت أنهم "غير مستعدين له بعد"، وأشار التقرير إلى أن
الفلسطينيين -بعد الاستقلال- يفضّلون الانتداب الأمريكي بوصفه الخيار الثاني (وهو
خيار كانت اللجنة نفسها قد طرحتْه عليهم)، على أن يكون تحت إشراف مجلس منتخب
ديمقراطيا، بدلا من الانتدابين البريطاني أو الفرنسي. غير أنّ الفرنسيين
والبريطانيين كانوا قد توصّلوا إلى تفاهمات بينهم وتجاهلوا التقرير كليا، وكذلك
فعل الرئيس ويلسون. ولم يُنشر تقرير اللجنة حتى عام 1922، بعد أن أقرّ الكونغرس الأمريكي
تأييده لوعد بلفور.
أثار
احتمال وجود دور أمريكي مباشر في فلسطين قلق المنظمة الصهيونية، التي خشيت أن يؤدي
أي إشراف أمريكي إلى قيام نظام ديمقراطي حقيقي يتيح للأغلبية الفلسطينية حكم
البلاد، بدلا من النظام الاستبدادي الذي كان البريطانيون يخططون لإقامته في ظل
انتدابهم. وقد عبّرت المنظمة الصهيونية عن هذا القلق في بيان صريح جاء فيه:
طموحات ترامب الاستعمارية الأخيرة في فلسطين لا تقوم على منح الولايات المتحدة دورا استعماريّا جديدا في غزة فحسب، بل على منحه لنفسه شخصيا أيضا. فقد نصّب ترامب نفسه رئيسا لما يُسمى "مجلس السلام"، المُعيّن ليكون بمثابة الإدارة الانتقالية التي تحكم غزة
"تعني
الديمقراطية في أمريكا، في أغلب الأحيان، حكم الأغلبية دون مراعاة لتنوع أنواع أو مراحل
الحضارة أو الفروق النوعية. وقد وُصفت الديمقراطية، بهذا المعنى، بأنها بوتقة الانصهار
التي يُدمج فيها الأقل عددا مع الأكثر عددا. وبينما هذا أمر طبيعي في أمريكا، وينجح
عموما، لكن إذا طُبقت الفكرة الأمريكية كما قد تُطبقها الإدارة الأمريكية على فلسطين،
فماذا سيحدث؟ الأغلبية العددية في فلسطين اليوم عربية، وليست يهودية. لكن من الناحية
النوعية، من البديهي أن اليهود هم المسيطرون الآن في فلسطين، وإذا توافرت لهم الظروف
المناسبة، فسيصبحون المسيطرين عددا أيضا خلال جيل أو جيلين. لكن لو طُبِّق المفهوم
الحسابي السطحي للديمقراطية الآن أو في مرحلة مبكرة مستقبلا على الأوضاع الفلسطينية،
لكانت الأغلبية التي ستحكم هي الأغلبية العربية، ولكانت مهمة إقامة وتطوير فلسطين
[كدولة] يهودية عظيمة أمرا في غاية الصعوبة".
تجاهل
الصهاينة هنا، عمدا، حقيقة أن الديمقراطية الأمريكية نفسها كانت تستبعد السكان
الأصليين والسود وغيرهم من الجماعات المُهمّشة، وأن الرئيس ويلسون كان عنصريا
وإمبرياليا معلنا.
على
أي حال، لم تتوفر فرصة جدّية لإقامة انتداب أمريكي على فلسطين، غير أنّ الدور الأمريكي
عاد بقوة بعد الحرب العالمية الثانية؛ فالولايات المتحدة هي التي رتّبت هندسةَ
تصويت الأمم المتحدة عام 1947 من خلال الضغط والتهديد لتغيير مواقف بعض الدول، بما
يضمن التصويت لصالح مشروع تقسيم فلسطين بين المستوطنين اليهود الأوروبيين وسكّانها
الأصليين. وهي أيضا من سارعت إلى الاعتراف بإسرائيل فور إعلان قيامها في أيار/ مايو
1948، لتصبح الراعي الإمبريالي الرئيس لها منذ عام 1967.
يبدو أن
طموحات ترامب الاستعمارية الأخيرة في فلسطين لا تقوم على منح الولايات المتحدة دورا
استعماريّا جديدا في غزة فحسب، بل على منحه لنفسه شخصيا أيضا. فقد نصّب ترامب نفسه
رئيسا لما يُسمى "مجلس السلام"، المُعيّن ليكون بمثابة الإدارة الانتقالية
التي تحكم غزة، والمسؤول عن قوات حفظ السلام متعددة الجنسيات، ولجنة من التكنوقراط
الفلسطينيين، وقوة شرطة محلية، لمدة عامين. كما دعا ترامب أيضا توني بلير-أشهر السياسيين
البريطانيين، وأحد أكثر الشخصيات المكروهة في العالم العربي، باستثناء السلطة الفلسطينية،
الذي يصفه كثيرون بأنه "مجرم حرب" لدوره في غزو العراق عام 2003- ليكون عضوا
في "مجلس السلام" الاستعماري. وقد زار بلير الضفة الغربية المحتلة مؤخرا،
والتقى حسين الشيخ، خليفة محمود عباس المُعيّن، للتآمر بشأن كيفية إنجاز خطط ترامب
في غزة.
ويشمل
تفويض مجلس ترامب بالقيام بـ"أي مهام إضافية قد تكون ضرورية لدعم وتنفيذ الخطة
الشاملة". وقد شبّه كريغ مخيبر، المدير السابق لمكتب نيويورك للمفوضية السامية
للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، دور ترامب في مقابلة مع موقع "الانتفاضة الإلكترونية"،
بأنه لا يختلف عن دور الملك البلجيكي ليوبولد الثاني في الكونغو. وهو تشبيه في
محله تماما.
أنشأ الملك
ليوبولد الثاني، ملك مملكة بلجيكا الناشئة آنذاك، "لجنة دراسات الكونغو العليا"،
التي تحولت لاحقا إلى "الرابطة الدولية للكونغو"، كواجهة لمشروعه
لاستعمار هذه الأرض الواقعة في وسط أفريقيا، وهو امتياز حصل عليه ليوبولد في مؤتمر
برلين عامي 1884-1885، الذي قسّمت فيه أفريقيا بين القوى الاستعمارية الأوروبية،
وهو ما مكّنه من إقامة "دولة الكونغو الحرة" عام 1885 بوصفها ملكية شخصية
له، لا دولة خاضعة لبلجيكا. وقد أخضع ليوبولد شعب الكونغو لأشكال مروعة من العمل القسري،
ونهب الموارد الطبيعية، وقمع مقاومة السكان بقوة مفرطة بلغت حدّ حرب إبادة جماعية أدت
إلى مقتل ما يصل إلى عشرة ملايين شخص إن لم يكن أكثر، أو نصف سكان الكونغو آنذاك. وقد
شملت الفظائع الليوبولدية قطع أيدي أعداد لا تُحصى من الكونغوليين عقابا على العصيان
الحقيقي أو المتخيّل، أو عقابا على التقصير في جمع المطاط. وقد كانت الكونغو أيضا مستعمرة
استيطانية صغيرة ضمت حوالي 25,000 مستوطن أبيض عشية الحرب العالمية الثانية.
رغم وضوح الطابع الاستعماري لخطط ترامب تجاه غزة، فإن تفاصيل ما يخطط له بعد اكتمال الإبادة الجماعية المستمرة حتى اليوم لا تزال غامضة
ورغم
وضوح الطابع الاستعماري لخطط ترامب تجاه غزة، فإن تفاصيل ما يخطط له بعد اكتمال
الإبادة الجماعية المستمرة حتى اليوم لا تزال غامضة. فخطابه المتكرر منذ توليه
السلطة في كانون الثاني/يناير الداعي إلى طرد فلسطينيي غزة، يتناغم مع
المحاولات الإسرائيلية الأخيرة لتسهيل "الطرد الذاتي" عبر رحلات غامضة
إلى جنوب أفريقيا. أمّا "وقف إطلاق النار" الذي احتفى به ترامب -والذي
استُخدم غطاء لاستمرار القصف اليومي الذي قتل أكثر من 400 فلسطيني خلاله- فلا يشير
بأي حال إلى صورة سلام يمكن أن تضمن أمنا أو كرامة لسكان غزة.
لقد
بقي من الناجين من حرب الإبادة نحو ستة آلاف فلسطيني من مبتوري الأطراف، من بينهم أربعة
آلاف طفل، يُضافون إلى آلاف الفلسطينيين الذين فقدوا أطرافهم في غزوات إسرائيل المتعددة
وقصفها لغزة منذ عام 2006. وليست هناك مؤشرات واضحة عمّا إذا كان القادم سيشهد
المزيد من عمليات البتر، انسجاما مع "التقاليد" التي أرساها كل من
ليوبولد وإسرائيل في التعامل مع الشعوب الخاضعة بالقوة.
وإذا
أخذنا في الاعتبار أنّ الولايات المتحدة، وترامب شخصيا، لعبا دورا مباشرا في
الإبادة الجارية لفلسطينيي غزة خلال العامين الماضيين، فإنّ مستقبل المدنيين في
القطاع تحت الإدارة الفعلية لترامب قد لا يختلف كثيرا عن مصير الكونغوليين في عهد
ليوبولد.
وإذا
كان ليوبولد قد نهب مطاط الكونغو؛ فإن اهتمام ترامب الحقيقي لا ينصب بالضرورة على مشروع
"ريفييرا" العقاري (وإن كان لا ينبغي تجاهل هذا المشروع)، بل على احتياطيات
النفط والغاز الطبيعي قبالة سواحل غزة. يبقى العامل الوحيد الذي لم يُحسب حسابه في
خطة "السلام" التي منحها مجلس الأمن شرعية دولية، وباركتها معظم الأنظمة
العربية، هو النضال المستمر وصمود الفلسطينيين في غزة، الذين لم يرضخوا رغم
أكثر من عامين من البربرية الإسرائيلية، ولم تتراجع إرادتهم في مواجهة مشاريع
الإبادة والتطهير الاستعماري.