مقالات مختارة

نيويورك بين أسوار الليبرالية والاشتراكية

جمعة بوكليب
الأناضول
الأناضول
في الأدبيات السياسية البريطانية، ذات الصلة بالانتخابات، ثمة مثل سائر يصف مَن حقق فوزاً انتخابياً صعباً أو نادراً بأنّه «قبض على برقٍ في زجاجة». هذا على وجه الدقة، في آراء المعلقين، ما فعله مرشح الحزب الديمقراطي الأميركي، زهران ممداني، في انتخابات منصب عمادة مدينة نيويورك، يوم الثلاثاء الماضي.

ممداني مسلم الديانة، من أصول آسيوية، شاب عديم الخبرة والتجربة، أضف إلى ذلك أنه يساري التوجه واشتراكي النزعة، تقدم ليتولى عمادة مدينة أميركية تعد قلعة الرأسمالية. وكأن ذلك لا يكفي، حرص على المجاهرة بمناوأته لإسرائيل في حرب الإبادة التي شنتها في غزة، في مدينة يقطنها أكبر عدد من معتنقي الديانة اليهودية في أميركا. ورغماً عن ذلك، تمكن من إقناع الناخبين بالتصويت له، وانتخابه عمدة لمدينتهم.

وكما اشتهرت مدينة لندن بوصف «مدينة الضباب»، اشتهرت مدينة نيويورك بوصف «التفاحة الكبيرة». البون شاسع بين الوصفين، لكن المسافة بين المدينتين تضيق حين يتعلق الأمر بانتخاب عمدة مسلم الديانة. كانت «مدينة الضباب» أول من بادر بانتخاب عمدة مسلم، وها هي «التفاحة الكبيرة» تلحق بها.

وصفُ نيويورك بـ«التفاحة الكبيرة»، في رأيي، كأن المقصود منه إغواء المهاجرين بالقدوم إليها والإقامة فيها على أمل الحصول على قضمة منها. فهي مقر أكبر سوق مالية في العالم، ومقر لأكبر الشركات وأكثر المدن شهرة. اللافت للانتباه أنها في الوقت ذاته كانت أكثر المدن الأميركية تضرراً في الممتلكات والأرواح في أحداث هجوم «القاعدة» الإرهابي في شهر سبتمبر (أيلول) 2001. وها هي بعد نحو ربع قرن، تتجاوز الحاجز الديني، وتتغاضى عن تلك الحادثة الإرهابية، وتختار التصويت لمسلم آسيوي اشتراكي يعادي إسرائيل، ويتقدم ببرنامج انتخابي يتطلب تحقيقه أموالاً طائلة ليست متوفرة، تعهد هو بالحصول عليها من خلال فرض ضرائب على الميسورين ممَّن يتجاوز دخلهم السنوي مليون دولار أميركي، وعلى الشركات. ووعد بوضع حدٍ لارتفاع إيجارات البيوت، وتوفير المواصلات العامة مجّاناً. ولهذه الأسباب كان أكثر أنصاره ممن هم دون سن الثلاثين، وفق التقارير.
لكن زهران ممداني ليس المرشح الديمقراطي الوحيد الذي قبض على برق ووضعه في زجاجة

لكن زهران ممداني ليس المرشح الديمقراطي الوحيد الذي قبض على برق ووضعه في زجاجة. يوم الثلاثاء الماضي كان يوم انتصارات الحزب الديمقراطي في أكثر من ثلاث ولايات على المستوى المحلي. كل المرشحين الديمقراطيين تمكنوا من تحقيق الفوز ونيل المناصب التي سعوا للحصول عليها على مستوى حكام ولايات وأقل. وهذا لا يعني أن الأبواب قد فُتحت أمام الحزب الديمقراطي للعودة إلى البيت الأبيض. لكن النتائج الانتخابية الإيجابية مشجعة، بمعنى أنها إذا كانت لا تفضي مباشرة إلى البيت الأبيض فهي من ناحية أخرى قد تساعد على وضع العلامات التي تقود إليه.

لأن المرشحين الديمقراطيين في الولايات الأربع كانوا شباباً، وقدَّموا برامج انتخابية تعنى بتوفير مستلزمات الحياة اليومية التي تؤرق الناخبين؛ مثل ارتفاع أسعار البضائع والسلع الضرورية. البعض من المعلقين يرون أن الناخبين أرادوا بذلك توجيه رسالة إلى الرئيس ترمب. البعض الآخر من المعلقين عدّ ذلك مؤشراً على استعادة الديمقراطيين زخمهم الشعبي انتخابياً، الأمر الذي قد يمهد الطريق أمامهم لتحقيق نجاحات مماثلة في انتخابات الكونغرس المهمة في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام المقبل. التكهنات سالفة الذكر تظل في رأيي تمنّيات أكثر مما هي تكهّنات مبنية على معطيات واقعية. لأن ما حدث في الانتخابات الأخيرة يظل محصوراً في إطاره المحلي وموضوعاته المحلية، ويتعسّر جداً سحبه على انتخابات الكونغرس أو الرئاسة. لأن الأخيرتين على المستوى الاتحادي، وتحظيان بآليات وحسابات مختلفة كثيرة التعقيد.

النجاحات الديمقراطية الأخيرة لن تفوت من دون تمحيص ومراجعة ونقاش في أروقة الحزب الجمهوري الحاكم. فهي مؤشر لما قد يحدث في انتخابات الكونغرس العام المقبل، ما لم يتم تدارك الأمر.

التحدي الأكبر لزهران ممداني عمدة أشهر مدينة أميركية وأكثرها سكاناً لن يكون في إثبات أحقيته بالمنصب، بل في الاختبار العملي لمشروعه السياسي اليساري والاشتراكي في قلب العاصمة المالية للرأسمالية العالمية. تهديده برفع الضرائب على الميسورين والشركات يضعه في مواجهة مباشرة مع المؤسسة الاقتصادية التي بنت نيويورك، والتي لا تعرف منطقاً سوى الأرباح. ستتعيّن على العمدة الشاب - ناقص الخبرة وعديم التجربة - الموازنة بين الوعود الشعبوية التي أوصلته إلى كرسي العمادة، وبين صدمة الواقع المتمثلة في خطر احتمال هجرة رؤوس الأموال وانهيار القاعدة الضريبية للمدينة.

فهل سيتمكن عمدة نيويورك الجديد من إثبات أن برنامجه الاشتراكي يمكن أن ينمو ويزدهر داخل أسوار قلعة رأسمالية، أم أن الضغط المالي والاقتصادي سيحوله إلى مجرد مثال آخر على أن الوعود الكبرى غالباً ما تتحطم على صخرة الموازنات والأرقام؟

الشرق الأوسط
التعليقات (0)