قضايا وآراء

في "الإنكار" ومظاهره وأسبابه!

أحمد عبد العزيز
"في زمن المجازر، لا حياد"- الأناضول
"في زمن المجازر، لا حياد"- الأناضول
في لحظات الانكشاف الكبرى، لا يُقيَّم الإنسان بقدرته على رؤية الحقيقة، بل باستعداده للاعتراف بها. فالقرآن الكريم، في الآية 146 من سورة الأعراف، لا يقدّم الكفر باعتباره غيابا للإيمان، بل باعتباره حالة نفسية مركّبة، تتداخل فيها آليات الإنكار، والانحياز، والغفلة، والرفض الوجودي.

يقول تعالى في هذه الآية الكريمة: "وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا، وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا، وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا، ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ."

هذه الآية ليست مجرد وصف للكفر، بل تصف نمطا نفسيا متكرّرا في التاريخ الإنساني، حيث يرى الإنسان الآية الربانية، ويُدرك سبيل الرشد، لكنه يختار سبيل الغي، ويُفضّل الضلال على الهداية. إنها ليست أزمة إدراك، بل أزمة إرادة. فالكافر لا يُنكر المعجزة لأنها غير مرئية، بل لأنه لا يريد أن يراها كدليل، ولا أن يخضع لما تعنيه من سلطة إلهية. الإنكار هنا ليس ضعفا معرفيا، بل رفضٌ أخلاقي، يُعيد إنتاج ظلام الضلال رغم سطوع نور الهداية.

الإنكار كآلية دفاع نفسي:

"وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا"..
الإنكار يتجلّى حين تُباد غزة، وتُقاوم رغم الحصار، ويصرّ البعض على لوم المقاومة بدلا من الاحتلال. هذا السلوك لا ينبع من الجهل، بل من رفض الاعتراف؛ لأن الاعتراف يفرض الالتزام بموقف أخلاقي، ويدين الصمت، ويفضح التواطؤ

الإنسان قد يرفض الحقيقة؛ لأنها تهدد منظومته الداخلية، وتُجبره على إعادة تعريف ذاته وموقعه في الكون.. رؤية الآية لا تكفي للإيمان بها؛ لأن الإيمان بالآية يتطلب استعدادا داخليا، لا مجرد الإدراك الحسي.

الانحياز السلبي المتعمّد

"وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا"..

هذا السلوك يُظهر أن المشكلة ليست في غياب الدليل، بل في رفض اتخاذه طريقا.. يُشبه ما يُسمّى في علم النفس بـ"الانحياز التأكيدي العكسي": حيث يرفض الإنسان ما يُخالف رغبته، حتى لو كان منطقيا.

الانجذاب إلى الغي كاختيار واعٍ:

"وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا"..

هنا لا نتحدث عن ضلال عفوي، بل عن اختيار متعمّد للغي، وكأن النفس تجد فيه ما يُرضي رغباتها أو يُعفيها من المسؤولية.. يُفسَّر هذا في علم النفس الأخلاقي بأنه "الانحراف المريح": حيث يختار الإنسان طريقا يُعفيه من مواجهة ذاته.

السبب الجذري التكذيب والغفلة:

"ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ"..

التكذيب هنا ليس مجرد رفض، بل موقف وجودي: إنكار للحق رغم ظهوره.. والغفلة ليست نسيانا، بل انشغالا بما يُبعد عن الحقيقة، وهو ما يُسمّى في علم النفس بـ"الانفصال الإدراكي المتعمّد".

هذا النموذج القرآني لا يقتصر على "زمن النبوة"، بل يتكرّر في كل لحظة. في الواقع العربي الإسلامي المعاصر، نرى هذا الإنكار يتجلّى حين تُباد غزة، وتُقاوم رغم الحصار، ويصرّ البعض على لوم المقاومة بدلا من الاحتلال. هذا السلوك لا ينبع من الجهل، بل من رفض الاعتراف؛ لأن الاعتراف يفرض الالتزام بموقف أخلاقي، ويدين الصمت، ويفضح التواطؤ.

إن "سيكولوجيا الإنكار" في القرآن تُعلّمنا أن الإيمان ليس مجرد تصديق، بل استعداد داخلي للانفتاح على التغيير، والخضوع للحق حين يظهر. وأن الكفر ليس غيابا للمعرفة، بل رفضٌ لما تعنيه المعرفة من مسؤولية والتزام. إنها قراءة تُعيد تعريف العلاقة بين النفس والحقيقة، وتُظهر أن المعجزة لا تُقنع من لا يريد أن يقتنع، وأن الرشد لا يهتدي إليه من لا يريد أن يهتدي.

أنظمة فاقدة الأهلية والشرعية!

حين يتعرض شعب شقيق للإبادة، لا يُقيّم أداء السلطة بقدرتها على إدارة الأزمات فقط، بل بموقفها الأخلاقي من الألم الإنساني. في زمن الإبادة، تتكشّف أخلاقيات السلطة، لا في بياناتها الرسمية، بل في خياراتها الرمزية: هل تُوقف الاحتفالات؟ هل تُدين القاتل؟ هل تنحاز للضحية؟ أم تُعيد تشكيل المشهد لتبدو "محايدة"، بينما تُمارس التواطؤ بالصمت أو التجميل؟

الإبادة المروّعة في غزة كشفت هذا كله. فبينما كانت المقاومة الفلسطينية تواجه آلة الدمار الصهيونية النازية، وتُسجّل صمودا استثنائيا أمام الحصار والمجازر، اختارت بعض الأنظمة العربية أن تُواصل مهرجاناتها الترفيهية، وتُبرّر ذلك بمنطق السيادة والانفتاح. في السعودية مثلا، استمرت فعاليات هيئة الترفيه رغم الإبادة الجماعية، بل واعتُبر التضامن مع غزة "مزايدة"، وكأن المجازر لا تستحق حتى لحظة صمت.

هذا السلوك لا يُفسَّر فقط بالسياسة، بل بالأخلاق. إنه خيار رمزي يكشف عن بنية السلطة التي ترى في الترفيه أداة لتجميل الخذلان، وفي الصمت حكمة، وفي التضامن خطرا على صورتها في عيون العالم المتواطئ. السلطة هنا لا تُنكر المجزرة، لكنها تُفرغها من معناها، وتُعيد تشكيل الوعي العام؛ ليُركّز على ما تسميه "الاستقرار" و"توفير العَلف"، لا على العدالة والانعتاق من ذل الاحتلال.

في مشهدٍ موازٍ، تستمر أنظمة الحكم في اضطهاد ما يسمونه "الإسلام السياسي"، لا لأنه يُهدّد الأمن، بل لأنه يرفض توظيف السلطة لصالح فئة بعينها. جماعة الإخوان المسلمين تُلاحَق رغم ضعفها وهمودها، لأنها تمثّل نموذجا سياسيا يُطالب بالإصلاح والمحاسبة، بينما يُحتفى بالتصوف الطقوسي؛ لأنه منبطح لا ينازع السلطة في أي أمر. إنها سلطة تُعيد تشكيل الدين بما يخدم مصالحها، لا بما يحفظ دين شعوبها وكرامتها.

في زمن المجازر، لا حياد؛ فإما أن تكون مع الضحية، أو مع من يبرّر قتلها. وإما أن تُدين، أو تُشارك بالصمت. وإما أن تُوقف الموسيقى، أو ترقص على أنقاض العدالة وأشلاء الضحايا.

حصار ونصر.. وتضليل وخذلان
سلوك يُعيد إنتاج الهزيمة، ويُبرّئ الجلاد، ويُدين الضحية، في مشهدٍ يُعرّي أزمة الإدراك العربي والإسلامي في زمن الانكشاف

في زمنٍ تُقاس فيه القوة بعدد الطائرات والدبابات، تُعيد غزة تعريف النصر. فالمقاومة الفلسطينية لا تملك ترسانة نووية، ولا غطاء دوليا، ولا حتى ممرا إنسانيا آمنا، لكنها تملك ما هو أندر: الإرادة، والصمود، والقدرة على تحويل الحصار إلى مفجّر إبداع، والتضحية إلى صرخة يرددها العالم بأسره على اختلاف دياناته وثقافاته وإثنياته وجنسياته.

لأكثر من ثمانية عشر عاما، خضعت غزة لحصار مركّب، سياسي واقتصادي وعسكري وإعلامي، لم تعرفه أي حركة مقاومة أخرى في العصر الحديث. إنه حصار لا يكتفي بالعزل الجغرافي، بل يستهدف الوعي، ويُمارَس كعقاب جماعي على أكثر من مليوني إنسان. ومع ذلك، استطاعت المقاومة أن تطوّر أدواتها، وتُربك الاحتلال، وتُعيد تعريف كل ما اصطلح عليه الناس من مفاهيم. إنها تجربة فريدة، تُظهر أن النصر لا يُقاس بالسيطرة، بل بالقدرة على البقاء، والتحدي، وإرباك العدو، رغم اختلال موازين القوة.

رمزية المقاومة في غزة تتجاوز الفعل العسكري، لتصبح فعلا وجوديا. فحين تُباد العائلات، وتُقصف البيوت، وتُقطع الكهرباء والماء، ويظل المقاتلون في مواقعهم، فإنهم لا يُدافعون فقط عن أرض، بل عن معنى. هذا المعنى هو ما يُرعب الاحتلال، ويُربك حساباته، ويُحرج المتواطئين. المقاومة هنا ليست فقط ردّا على العدوان، بل إعلانا أن الفلسطيني لا يُهزم حتى لو سقط جسديا، لأنه يملك ما لا يُقصف: الحق، والإرادة، والذاكرة.

في المقابل، يُصرّ كثيرون على تجاهل هذا النصر الرمزي، ويُركّزون على عدد الضحايا وحجم الدمار، بل ويُلقون باللوم على المقاومة لا على إسرائيل. هذا السلوك لا ينبع من تحليل عقلاني، بل من انكسار نفسي أمام القوة، وتأثير إعلامي يُعيد تشكيل الوعي، وخوف من الاعتراف بأن غزة انتصرت رغم المجازر. إنه سلوك يُعيد إنتاج الهزيمة، ويُبرّئ الجلاد، ويُدين الضحية، في مشهدٍ يُعرّي أزمة الإدراك العربي والإسلامي في زمن الانكشاف.

إن قوة المقاومة لا تُقاس بالنتائج العسكرية، بل بالقدرة على تحويل الألم إلى وعي، والحصار إلى إصرار على البقاء، والدم إلى ذاكرة. إنها مقاومة تُعيد تعريف النصر، لا كسيطرة بل كصمود، لا كغلبة بل كبقاء. وفي زمن الانكشاف، تظل غزة هي الحقيقة التي تُحرج الجميع: الأنظمة، والإعلام، والمثقفين، لأنها تُذكّرهم بما فقدوه، وتُعيد تعريف كل ما تصوروا أنهم يعرفونه.

x.com/AAAzizMisr
aaaziz.com
التعليقات (0)