ظواهر لفهمها وليس للحكم عليها:
كثيرا ما نسمع "الجماعة الفلانية أفكارها هدامة وأنهم أناس يتكلمون
ولا يفعلون، وإن ائتُمنوا خوانين وإن كُلفوا فاسدين"، والحقيقة أن الأفكار
الهدامة هي ما يحمله المجرمون وفاقدو
القيم، لكن ضعف تركيز مثقفي
المجتمع
وانجرارهم وراء السوقية والرغبة بتحقيق الذات -وهذا عيب كبير ومرض نفسي خفي خطير-
يجعلهم ينساقون وراء ما اصطلح عليه بالشعبوية وهي كلمة تقلل من قيمة التوجه نحو
إرضاء العامة من الناس.
الأفكار بشكل عام تحمل إضاءة وتنويرا عاليا، لا فرق في ذلك بين الأحزاب أيا
كانت؛ علمانية سطحية الفكر تخاطب الجمهور أو شيوعية انقرضت ولم تتخط الاشتراكية
التي كانت تسير بضيق وسوء التطبيق، أو رأسمالية في وعود الرفاهية والقيمة
الإنسانية التي بانت في الفترة الأخيرة أنها واهية، لكن عند التطبيق الأمر مختلف
وكل له أسبابه. وهو ذات الأمر ينطبق على الأحزاب الإسلامية التي غالبا ترى في
كوادرها تدينا ولكن فيهم أناس يتسللون للقيادات وهم يرون أنهم هم
الدين رغم أن
سلوكياتهم لا دين فيها وكلامهم محض نفاق مبين.
فأما ما يهمنا الآن فهو تراجع نظام الرأسمالية بتخلخل أذرع حمايتها في خلق
مجتمع مستقر، ونرى أن مجرد المخالفة تتحول الدولة إلى سلطة من العالم الثالث. لكن
ما زال هنالك من يؤمن بما يعتقد في السلطة فيوقف تدهور المجتمع نحو الدكتاتورية أو
امتهان الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية، وهذا مقروء للجميع عند حصول احتجاجات
تخالف السياسة في الدولة، فليس من قبول للآخر المختلف فكيف للمخالف؟ ونحن نرى مثلا
ما حصل من تدهور في العلاقات بين إيلون ماسك الذي دعم ترامب للوصول إلى الرياسة لأنه
وضع صديقه الديمقراطي في ناسا، ثم برر ذلك بأنه لا يجوز إدارة هذا الصديق لناسا
وماسك له مصالح فيها.
أما الإسلاميون، فلطالما عاشوا حياة سرية وتواجدهم كان في المساجد، فالمساجد
تستقطب المظلوم الضعيف وغالبا هؤلاء متدينون غريزة وعاجزين وليسوا عاملين لقيمة
ومبدأ؛ اللهم إلا بما تفرزه المظلومية من كلام تلك المساجد التي تركها معظم من
تولى السلطة، فقد انتفت حالة الضعف والشعور بالقهر والغبن وعاد لطبعه متقنعا بتطبّعه،
وحل هو محل الظالم واحتفظ بالاسم الذي أوصله إلى ما هو فيه ولم يك حقيقة يفهم ما
اتصف به، فتمكن مفسد مؤذ معيق لتقدم الفكر بمنع مفكريه وإهمالهم إن لم يك معاداتهم
وهم أصل الفكر وغذاؤه، لكن المتحول نحو دنيا؛ خسارتها جعلته يذهب إلى المسجد فيلتقطه
أناس يتصورون أنه على خلق ودين ويضمونه إليهم؛ يقوم بدور طائر الوقواق الذي يطرد
الأصل ليطعمه من يجهل نوعه.
إن الأفكار العظيمة ليس بالضرورة عظيم من يدعيها ولو كان من قياداتها، وعلى
هذا فليست أفكارا هدامة تلك التي يزعم امتلاكها أناس هدامون، أو سفلة فاسدون وان
زعموا أنهم منتمون للدين؛ وإنما هؤلاء مسوخ لبسوا لبوس الصلاح وبشاعة تقنعت بنور
الهداية.
ومن البشاعة في واقعنا استغلال الإنتاج المدني لشعوب أخرى باستخدام سيئ، أو
بما تطوره عقلية الفساد، فتجد أن البدايات فاسدة كاستخدام الذكاء الاصطناعي في
الغش والشر وتندمج مع النفسية، لتصبح أمرا معتادا بتقديم المكانة الاجتماعية أو
القيمة المادية على القيم العليا، فبالتالي تخلق حالة من تعايش الفساد مع الاعتقاد
ومعرفة الفضيلة، فيظهر كلام يقطر فضائل ودعوات بالإصلاح بينما نجد أن هؤلاء هم أشد
العابثين عند هذا يكون المجتمع عاجزا عن الإصلاح والمطلوب تفعيل التفكير للتغيير.
الموقف والخدمة:
إنك لا تصنف الموقف من عظمة الفعل وإنما من ماهيته، وقد يكون دافعه إنسانيا
عاطفيا، أو فكريا عقائديا واعيا، أو يكون لسجية عند الإنسان في حب العطاء. وهذا
النوع تكثر مواقفه الإيجابية، والمواقف من الفضائل كما الخدمة للناس بتسهيل أمورهم
من الفضائل، بيد أن الاختلاف بين المواقف والفضائل أن المواقف لا تسدد وهي دين غير
مطلوب وفاؤه لكنه لا يوفى وإن جازيت مَن عمل الموقف على موقفه إلا بالوفاء، لأن
الوفاء من الفضائل التي لا ثمن لها ودَين بلا سداد. أما الخدمة فهي بحكم الواجب، فإن
لم تك فهي تسدد بخدمة، وهنا يكون للمصالح سوق وفعل ومن الناس من يقوم بالخدمة ليس
لينال مقابلا لها من بشر وإنما هي في سبيل الله، فتعلو عند الله ما يفوق علو
الموقف عند البشر للبشر.
هذه أمور يتساوى بها الزعم بالتطبيق، فإن زعم من ينسى التنفيذ فهذا ارتداد
عن مكارم
الأخلاق وخداع للناس وفساد في النفس مهما كانت غايته. فهنا لا صغيرة ولا
كبيرة، فكل أمر عند محتاج له كبير، والمحتاج كالأعمى من دله على طريق حاجته أو
أتاه بها فذاك خير وإن فعل العكس فتلك خيانة، وإن لم يفعل رغم وعده فذاك مضيعة
للفرصة والوقت، لذا قيل "الوعد دين" لوجوب الوفاء له.