كما كان متوقعا، خضع تقييم نتائج
الحرب الأخيرة بين
إيران ودولة الاحتلال
في العالم العربي لمنطق الاستقطاب القائم وخصوصا لجهة الموقف من إيران، بما أدى
لتقديرات متسرعة ومبالغ بها لصالح أحد الطرفين؛ من قبيل "النصر الكاسح"
و"الهزيمة الساحقة" و"انهيار النظام" و"الاستسلام"
وغير ذلك، ومما يبعث على الأسف أن الأمر شمل حتى بعض الباحثين والكتاب الذين يفترض
بهم وينتظر منهم التقييم الموضوعي.
والبديهي أن تقييم نتائج حرب من هذا النوع لا يمكن اختزاله بهذه الطريقة المخلّة،
وإنما ينبغي أن يُبنى على منهجية تعتمد عدة عناصر رئيسة؛ في مقدمتها سياق الحرب،
وأهداف الطرفين (المعتدي والمعتدى عليه) منها، وتطوراتها الميدانية، وخسائر كل
طرف، وقدرات وأسلحة الطرفين، وكيف وعلى أي أسس انتهت الحرب.
يمكن تلخيص سياق الحرب بعدة معطيات بالغة الأهمية لا يمكن تقييم نتائج الحرب
بدون وضعها في الحسبان:
الأيام اللاحقة في الحرب أكدت على أن إيران امتصت إلى حد كبير الصدمة الأولى وبادرت إلى تفعيل منظومة الصواريخ الباليستية في سياق السعي لحرب استنزاف تبدو هي -أي إيران- أكثر قدرة من "إسرائيل" على تحملها
أولها، أن إيران لم تكن تريد المواجهة بل أُجبرت عليها، وكانت حتى اللحظة
الأخيرة تسعى لتجنبها ولعلها ظنت أنها ستنجح في ذلك، وهو تقدير خاطئ بطبيعة الحال
بعد ما أثبتته السنتان الفائتتان من متغيرات جوهرية في النظرية الأمنية- العسكرية
لدولة الاحتلال في المنطقة وبعد التغيرات الكبيرة في الأخيرة. الأهم أن إيران كانت
تسعى بما أوتيت من قوة وأوراق لتجنب مواجهة مباشرة وشاملة مع الولايات المتحدة
الأمريكية، والتي ترى أنها ستكون مدمرة وكارثية عليها.
وثانيها، أن الحرب أتت بعد إضعاف حلفاء إيران في المنطقة إلى حد كبير، على
أقل تقدير وفق المنظور "
الإسرائيلي"، وفي مقدمة ذلك سقوط النظام السوري،
والضربات التي وُجهت لحزب الله في لبنان واختُتمت باتفاق وقف إطلاق النار، فضلا عن
إضعاف حركة حماس والمقاومة في غزة. وبالتالي فقدت إيران الدرع الأمامي وورقة
التدخل البري -المحتمل- في أي حرب مع "إسرائيل"، وبالتالي نسبة لا بأس
بها من الردع وأوراق القوة.
وثالثها، أن إيران لم تخض الحرب ضد دولة الاحتلال منفردة، بل شاركت مع
الأخيرة عدة أطراف عربية وغربية، إن كان على صعيد الرصد والاستطلاع، أو المشاركة
الفعلية في إسقاط المسيرات والصواريخ الإيرانية (بإتاحة الأجواء و/أو المشاركة
المباشرة)، أو الضربة الأمريكية الكبيرة على المنشآت
النووية، وغير ذلك.
في تطورات الحرب، وجهت "إسرائيل" بلا أدنى شك ضربة كبيرة لإيران،
باغتيال عدة قيادات عسكرية وازنة وعلماء بارزين في المشروع النووي بشكل متزامن،
فضلا عن قصف مواقع حساسة، واتضح أنها قد حققت على مدى سنوات اختراقات أمنية مذهلة
في الداخل الإيراني، بما في ذلك تشغيل جهاز الموساد مجموعات قادرة على استخدام
مسيّرات وأسلحة مختلفة خلال الحرب. كما لا ينبغي تجاهل الضربة الكبرى التي وُجهت
للمشروع النووي الإيراني بالقصف الأمريكي المباشر في آخر أيام الحرب.
بيد أن الأيام اللاحقة في الحرب أكدت على أن إيران امتصت إلى حد كبير
الصدمة الأولى وبادرت إلى تفعيل منظومة الصواريخ الباليستية في سياق السعي لحرب
استنزاف تبدو هي -أي إيران- أكثر قدرة من "إسرائيل" على تحملها لعدة
أسباب. خلال الأيام الأخيرة في الحرب، ورغم غياب أي اغتيالات لشخصيات
"إسرائيلية" وازنة واختلال ميزان الخسائر البشرية لصالح دولة الاحتلال،
أثبتت إيران أن صواريخها قادرة على إحداث ضرر أكبر وبدقة أعلى مما كان يظن قادة
الاحتلال. وقد صدرت عدة تقارير إعلامية "إسرائيلية" وغربية بهذا الخصوص،
فضلا عن تصريحات ترامب وكذلك حديث نتنياهو -ومسؤولي حكومته- المتكرر عن
"الحرب الصعبة" و"الثمن الكبير" الذي ينبغي دفعه في المواجهة
مع طهران.
إضافة لما سبق، من المعايير المهمة في تقييم نتائج الحرب ثم تبعاتها على
المديين القريب والبعيد؛ أنها لم تنته باتفاق لوقف إطلاق النار (رغم التسمية
الشائعة)، بل فقط بتوافق ضمني من الأطراف الثلاثة بعدم الاستمرار بها. وبالتالي
فلم تتوقف الحرب بناء على توافق على أي شروط، ولا بالاتفاق على مسار سياسي أو أمني
مختلف بما في ذلك المفاوضات بين طهران وواشنطن على الملف النووي. أكثر من ذلك، فقد
كان أول من دعا إلى وقف الحرب، بعد قصف المنشآت النووية، هو رئيس وزراء الاحتلال
نتنياهو، وهو أمر ينفي فكرة الانتصار الساحق لصالح "إسرائيل" بالحد
الأدنى، فلو كانت الأخيرة مرتاحة تماما لنتائج الضربة الأمريكية ومخرجات الحرب حتى
حينه لما كان وقف الحرب بهذه الطريقة والأسلوب.
في الأهداف المعلنة للحرب، كرر نتنياهو أكثر من مرة أهدافا مرتفعة السقف من
قبيل تغيير النظام الإيراني، وتدمير مشروعه النووي، وكذلك منظومته الصاروخية، وإن
كانت بعض التصريحات أظهرت تضاربا وتناقضا أحيانا في ذلك. كما كرر ترامب نفسه عبارة
"الاستسلام الكامل وغير المشروط" من قبل إيران كشرط لوقف الحرب عليها.
في المقابل، التزمت طهران سردية ضرورة وقف العدوان عليها و"معاقبة
إسرائيل" للعودة للمفاوضات مع الإدارة الأمريكية.
المواجهة الأخيرة لن تكون النهائية على الأغلب بين الجانبين، إذ أنها لم تحسم أيا من الملفات الخلافية بشكل نهائي، فضلا عن استمرار الحرب على غزة وفي المنطقة (سوريا ولبنان واليمن) بما يبقي فتيل التصعيد مشتعلا، وتزداد احتمالات المواجهات المستقبلية في حال تأكد أن الضرر الذي حل بالمشروع النووي الإيراني أقل مما يرضي "إسرائيل"
وعليه، تكون إيران في المحصلة قد حققت أهدافها في هذه الحرب، أي وقف
العدوان والرد على "إسرائيل" وتجنب حرب مباشرة وشاملة مع واشنطن، رغم
أنه لا يمكن أبدا التقليل من أثر الضربات التي تلقتها، على المستويين الرمزي
والفعلي، بما يخص الاختراقات والاغتيالات والبرنامج النووي وحتى منظومات الدفاع
الجوي، بينما لم تحقق دولة الاحتلال الأهداف الكبيرة التي أعلنتها، واكتفت بأنها
وجهت ضربات أمنية ناجحة وتحققت لها الضربة الأمريكية المنشودة للمنشآت النووية،
وأثبتت من جهة أخرى أنها لا تملك حلا ناجعا للصواريخ الإيرانية رغم عديد منظومات
الدفاع الجوي والدول التي تشاركها المنظومة الدفاعية.
ومن نتائج الحرب المباشرة بقاء النظام الإيراني متماسكا، واستنزاف الجبهة
الداخلية "الإسرائيلية" بشكل غير مسبوق في تاريخ دولة الاحتلال، والضربة
الكبيرة التي تعرضت لها المنشآت النووية، رغم صعوبة الجزم بما حصل لها على الواقع،
ولكنها بالتأكيد تعرضت بالحد الأدنى لأضرار ستؤخر المشروع النووي لمدة زمنية ليست
بالقصيرة.
وأخيرا، فإن المشهد النهائي للحرب كان عبارة عن ضربات محددة ومحسوبة من
الولايات المتحدة وإيران، أخبرت كل منهما الأخرى قبلها عنها عبر تركيا، كما ذكر
وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في مقابلة تلفزية قبل أيام، بما يؤكد أن
الجانبين لا يريدان حربا مفتوحة، فضلا عن أن كلا من إيران ودولة الاحتلال رغبتا في
وقف الحرب عند هذه النقطة، بما يعني أن أيا منهما لم يتعرض لهزيمة واضحة أو يحقق
نصرا جليا، وإنما كانت نتيجة المواجهة نقاطا لكل منهما إن جاز التعبير، وستختلف التقديرات
بطبيعة الحال حول عددها وأثرها.
وعليه، في ما بعد الحرب، ستعكف كل من إيران ودولة الاحتلال على دراسة الحرب
بشكل تفصيلي والسعي لاستدراك الأخطاء والثغرات التي أظهرتها خلالها؛ الخروق
الأمنية والوضع الداخلي ومنظومة الحلفاء بالنسبة لإيران، ومعضلة الصواريخ
الباليستية بالنسبة لدولة الاحتلال. وهو ما يعني في المقام الأول أن المواجهة
الأخيرة لن تكون النهائية على الأغلب بين الجانبين، إذ أنها لم تحسم أيا من
الملفات الخلافية بشكل نهائي، فضلا عن استمرار الحرب على غزة وفي المنطقة (سوريا
ولبنان واليمن) بما يبقي فتيل التصعيد مشتعلا، وتزداد احتمالات المواجهات
المستقبلية في حال تأكد أن الضرر الذي حل بالمشروع النووي الإيراني أقل مما يرضي
"إسرائيل" وبالتالي الولايات المتحدة كذلك.
x.com/saidelhaj