نشرت مجلة
فورين بوليسي الأمريكية تقريرًا مطوّلًا للصحفية أنشال فوهرا، سلطت فيه الضوء على التراجع الملحوظ في تأثير أوروبا على مجريات الأحداث في الشرق الأوسط، لاسيما في ظل التصعيد العسكري بين الاحتلال الإسرائيلي وإيران، وتهميش واشنطن للدور الأوروبي في اتخاذ القرارات الحاسمة.
بحسب التقرير، فقد سعت الدول الأوروبية إلى رفع صوتها في وجه التصعيد الإسرائيلي ضد قطاع
غزة، وناقش وزراء خارجية 23 دولة في
الاتحاد الأوروبي، في اجتماع بتاريخ 23 حزيران/يونيو الجاري، إمكانية اتخاذ إجراءات ضد الاحتلال الإسرائيلي على خلفية حرب الإبادة التي تقوم بها في غزة، في ظل تقارير أوروبية داخلية خلصت إلى احتمال خرق إسرائيل للمادة الثانية من اتفاقية الشراكة مع الاتحاد، والتي تنص على احترام حقوق الإنسان.
إلا أن هذه الجهود الأوروبية تراجعت على وقع التصعيد العسكري الأكبر بين الولايات المتحدة والاحتلال الإسرائيلي من جهة، وإيران من جهة أخرى، حيث تم تجاهل دعوات أوروبا لضبط النفس، ولم تُجدِ الاجتماعات الدبلوماسية المتكررة في تحقيق أي اختراق يُذكر.
لقاء جنيف.. لا نتائج ولا جدول
قبل يوم واحد من الغارات الأمريكية على المنشآت النووية
الإيرانية في فوردو ونطنز وأصفهان، التقى الثلاثي الأوروبي (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) بكبيرة دبلوماسيي الاتحاد الأوروبي ونظرائهم الإيرانيين في جنيف. ولم يسفر الاجتماع عن أي تقدم، إذ اشترطت طهران وقف القصف الإسرائيلي قبل العودة إلى طاولة المفاوضات مع واشنطن.
وقد أكدت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، مايا كالاس، عبر منصة "إكس" أن "طهران تدرك تمامًا ما هو على المحك"، في حين أشار دبلوماسي أوروبي إلى أن إيران أبدت استعدادًا لمواصلة الحوار مع الأوروبيين دون تقديم تنازلات ملموسة، وهو ما عُد تقدماً طفيفاً.
في 20 حزيران/يونيو الجاري، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد
ترامب أن أوروبا "غير قادرة على المساعدة" في حل النزاع، وأمر بشن غارات جوية واسعة على المنشآت النووية الإيرانية مستخدمًا قنابل خارقة للتحصينات، زاعمًا أنها "دمرت" قدرات إيران النووية، دون أن يُعلم الحلفاء الأوروبيين مسبقًا.
ورأت فوهرا أن الأوروبيين أخفوا مشاعرهم الحقيقية تجاه تلك الضربات وتجاه إدارة ترامب عموماً، إلا أن العديد من الدبلوماسيين الأوروبيين عبّروا عن إحباطهم من التنسيق الهش مع واشنطن، خاصة أن الأخيرة تتصرف وفق أجندتها الخاصة دون مشاورات.
اظهار أخبار متعلقة
أزمة أمنية وتجارية في أوروبا
وتجد أوروبا نفسها اليوم أمام أزمة مركبة، إذ إنها مطالبة بزيادة إنفاقها الدفاعي إلى نحو 5٪ من الناتج المحلي الإجمالي في قمة الناتو المقبلة، في وقت تسعى فيه لإقناع ترامب بعدم فرض رسوم جمركية بنسبة 50٪ على واردات أوروبية، اعتبارًا من 9 تموز/يوليو القادم.
وتؤكد فوهرا أن الأوروبيين، رغم اختلاف رؤاهم عن واشنطن، باتوا أكثر التزامًا بخط الرئيس الأمريكي، تجنبًا للمزيد من الأزمات مع الحليف العابر للأطلسي.
وعلى المستوى السياسي، أظهر الأوروبيون مواقف متضاربة. ففي حين أعرب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن شكوكه في فعالية الأساليب العسكرية لتحييد البرنامج النووي الإيراني، أعلن تأييده لخفض تخصيب اليورانيوم إلى "الصفر"، تماشيًا مع الرؤية الأمريكية والإسرائيلية.
الموقف ذاته تبنّته ألمانيا وبريطانيا، حيث عبّر المستشار الألماني فردريتش ميرز عن دعمه المطلق للاحتلال الإسرائيلي، قائلًا: "هذه الحرب القذرة التي تخوضها إسرائيل، هي من أجلنا جميعًا".
وفي تناقض صارخ، لم تصدر أي دولة أوروبية إدانة للهجوم الإسرائيلي على إيران، ما فسره مراقبون بأنه انحياز واضح، سيقوّض مستقبل علاقات أوروبا مع طهران.
غياب الأدلة النووية
ويشير علي فائز، مدير برنامج إيران في "مجموعة الأزمات الدولية"، إلى غياب أي معلومات استخباراتية تؤكد أن إيران تسعى لتطوير سلاح نووي. وأضاف أن تبنّي الأوروبيين لمبدأ "التخصيب الصفري" جاء كمبرر لدعم الضربات الأمريكية والإسرائيلية، معتبرًا أن هذا الموقف يفضح التبعية الأوروبية للولايات المتحدة.
ويُضاف إلى ذلك تقرير للوكالة الدولية للطاقة الذرية صدر في 12 حزيران/يونيو الجاري، أشار إلى تقاعس إيران عن التعاون مع المفتشين، ما زاد من قلق الأوروبيين، خاصة في ظل رفع طهران لنسبة تخصيب اليورانيوم إلى 60%، وهي نسبة تقترب من عتبة الـ90% المطلوبة لصنع سلاح نووي.
بحسب التقرير، يتمثل القلق الأكبر لدى أوروبا، في ما قد تفعله طهران ردًا على تجاهل الغرب. إذ حذّر فائز من احتمال قيام إيران بعمليات سرية داخل أوروبا، واحتجاز مزيد من الرهائن، فضلًا عن فتح الباب لتهريب المخدرات من أفغانستان إلى الحدود الأوروبية، لا سيما في حال قررت إيران الرد عبر إغلاق مضيق هرمز، الذي تمر عبره نحو 20 مليون برميل نفط يوميًا.
وقد أعربت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين٬ عن خشيتها من ارتفاع أسعار الطاقة، ودعت إلى اجتماع أمني طارئ لبحث التداعيات الاقتصادية والأمنية للحرب.
اظهار أخبار متعلقة
غياب الرؤية الأوروبية
وتَخلص فوهرا إلى أن أوروبا، التي لا تزال ترزح تحت تأثير موجات اللجوء التي أعقبت الحرب السورية، باتت ضعيفة التفكير والطرح، وعاجزة عن تقديم مقترحات دبلوماسية خلاقة. فقد كان المقترح الأمريكي السابق بإنشاء اتحاد إقليمي لتخصيب اليورانيوم بمشاركة إيران ودول الخليج، أكثر واقعية وإبداعًا من أي مشروع أوروبي.
وتبقى المفارقة، بحسب التقرير، أن الغارات الأمريكية لم تحسم الجدل حول مصير اليورانيوم المخصب الإيراني، حيث لا يزال موقعه مجهولًا، ما دفع ماكرون للقول: "اليوم، لا أحد يعرف بدقة مكان وجود اليورانيوم المخصب بنسبة 60%. علينا استعادة السيطرة على البرنامج النووي الإيراني عبر التفاوض والخبرة الفنية".
ورغم الحديث الأوروبي عن مراجعة اتفاقية الشراكة مع الاحتلال الإسرائيلي، لم يُتخذ أي إجراء عملي. وأشارت مايا كالاس إلى أن الهدف لم يكن معاقبة إسرائيل، بل تحسين الوضع الإنساني في غزة، في تصريح اعتبره مراقبون دليلًا على ضعف الموقف الأوروبي أمام الانتهاكات الإسرائيلية.
وفي ختام التقرير، تؤكد فورين بوليسي أن أوروبا باتت اليوم في أضعف موقع لها في الشرق الأوسط منذ عقود، بعد أن فقدت نفوذها على واشنطن، وتعرضت هيبتها للتهشيم أمام التصعيد المتسارع في المنطقة.