قضايا وآراء

ترامب والحضارة الموعودة.. الشيطان الأكبر وأوهام هرمجدون

محمد عماد صابر
"يرى نفسه جزءا من السيناريو الإلهي لإنهاء التاريخ، وتثبيت السيادة الأمريكية- الإسرائيلية على العالم"- إكس
"يرى نفسه جزءا من السيناريو الإلهي لإنهاء التاريخ، وتثبيت السيادة الأمريكية- الإسرائيلية على العالم"- إكس
في خضم الموجات المتلاحقة من التحولات السياسية والدينية التي تجتاح العالم، يعود دونالد ترامب إلى واجهة المشهد العالمي، ليس فقط كرئيس أمريكي أعيد انتخابه لولاية ثانية غير متتالية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، بل كممثل صارخ لعقيدة سياسية- دينية عميقة الجذور في اللاهوت البروتستانتي الصهيوني. ترامب ليس مجرد رئيس، بل هو تجلٍّ حيٌّ لمشروع حضاري يتكئ على فكرة "الحضارة الموعودة" التي لا تتحقق إلا بالصدام، ويُدار فيها "السلام" بالقوة، وتُفرض فيها الحقيقة بالسلاح.

في زيارته الأخيرة إلى قاعدة العديد في قطر (15 أيار/ مايو 2025)، صرّح ترامب بأن الولايات المتحدة "ستحول غزة إلى منطقة حرية تحت الرعاية الأمريكية"، مؤكدا أن الحروب المقدسة ستستمر حتى يتحقق "النظام الإلهي الجديد". جاءت تصريحاته هذه ضمن سلسلة مواقف تكشف عن إيمان راسخ بنبوءات هرمجدون، حيث يرى نفسه جزءا من السيناريو الإلهي لإنهاء التاريخ، وتثبيت السيادة الأمريكية- الإسرائيلية على العالم.

تتلاقى هذه العقيدة مع مصالح اليمين الصهيوني في إسرائيل، فيتحول الإيمان إلى أداة لتبرير الغزو والعدوان

من خلال هذا التوجه، تُمثل رئاسة ترامب الحالية تمديدا خطيرا لفكر "الشيطان الأكبر" الذي يسعى لفرض نظام عالمي جديد من بوابة العنف، باسم السلام.

يتشكل المشروع الذي يقوده ترامب من مزيج لاهوتي- سياسي يستمد جذوره من اللاهوت البروتستانتي الإنجيلي الذي يؤمن بضرورة تحقيق نبوءات العهد القديم، وعلى رأسها معركة هرمجدون، وإقامة إسرائيل الكبرى، وعودة المسيح بعد خراب العالم. تتلاقى هذه العقيدة مع مصالح اليمين الصهيوني في إسرائيل، فيتحول الإيمان إلى أداة لتبرير الغزو والعدوان.

منذ حملته الانتخابية الأولى، قدّم ترامب نفسه باعتباره المختار الإلهي، وساهم بشكل مباشر في قرارات كبرى مثل نقل السفارة إلى القدس، وشرعنة الاستيطان، وإعلان "صفقة القرن". وفي ولايته الحالية، يتبنى خطابا أكثر وضوحا في تطويع الدين لخدمة السياسات الأمريكية- الإسرائيلية، ويضع نفسه قائدا لمعركة الخير ضد "قوى الشر"، وهو توصيف يستخدمه لوصم المسلمين والصين وروسيا والمعارضين المحليين.

يرتكز هذا المشروع على ثلاث دعائم: السيادة الأمريكية الروحية والمادية على العالم، وزعامة إسرائيل الدينية والتاريخية وإخضاع الأمم الأخرى بالقوة أو الفناء.

ويعتقد ترامب ان أعداء هذا المشروع هم المسلمون (بوصفهم الإرث الأخطر)، والصين (كقوة مادية نقيضة)، وروسيا (كرمز للتحدي الحضاري)، وكل من يرفض المشروع الغربي الأخروي.

وأدوات هذا المشروع هي القوة باسم السلام من خلال هذه المفردات:

- العسكرة: نشر القوات في الشرق الأوسط وآسيا، وزيادة ميزانية الدفاع.

- الإعلام الإنجيلي: قنوات تنشر فكر الخلاص الأمريكي وتحشد لحرب مقدسة.

- التطبيع الديني: لقاءات بين حاخامات وإنجيليين ومسلمين مزيفين لصنع "سلام ديني جديد".

- قوانين دينية تفرض رؤى يمينية محافظة على التعليم والقضاء والسياسة الخارجية.

ما يجري اليوم من تحولات بقيادة ترامب ليس مجرد خلاف سياسي، بل صدام حضاري عقدي خطير. ترامب يُمثل نسخة متطرفة من "الشيطان الأكبر"، يسعى لفرض النظام العالمي الجديد بالقوة وتحت ستار ديني

الأخطر أن هرمجدون ليست مجرد نبوءة دينية، بل أداة سياسية لإخضاع الشعوب وتبرير الحروب. من خلال ربط السياسات اليومية بالأساطير الدينية، يتحول ترامب إلى قائد لأمة لا تفكر بعقلها بل بعقيدة الخلاص والانتظار. غزة، القدس، إيران.. كلها مواقع محتملة للاشتعال وفق هذا السيناريو.

ولهذا يرى ترامب العالم في عقله عالمين: عالم النور (نحن)، وعالم الظلمة (هم). ويُقصد بـ"نحن": أمريكا الإنجيلية، وإسرائيل الصهيونية، ومن يدور في فلكهما. أما "هم": المسلمون، والروس، والصينيون، وكل من يقاوم المشروع. هذه الثنائية تُنتج سياسة لا تقبل الحوار بل الإخضاع.

العالم الإسلامي بين التهديد والاستنهاض

لا خيار أمام الأمة الإسلامية إلا الانتباه إلى خطورة المرحلة، وإعادة بناء رؤيتها الحضارية، وامتلاك خطاب جامع يُواجه المشروع الهرمجدوني بخطاب قرآني- مستقبلي يُعيد تعريف السلام، ويستنهض الأمة على أسس التوحيد والعدل.

إن ما يجري اليوم من تحولات بقيادة ترامب ليس مجرد خلاف سياسي، بل صدام حضاري عقدي خطير. ترامب يُمثل نسخة متطرفة من "الشيطان الأكبر"، يسعى لفرض النظام العالمي الجديد بالقوة وتحت ستار ديني مخيف.

إن التصدي لهذا المشروع يتطلب يقظة فكرية، وإحياء روح المقاومة الحضارية، وتوحيد صفوف الأمة في معركة الوعي.
التعليقات (0)