في خطابه أمام
القمة العربية التي استضافتها العاصمة
العراقية بغداد أمس السبت، أكد
السيسي "أنه حتى لو نجحت إسرائيل في إبرام
اتفاقيات تطبيع مع كل الدول العربية فإن السلام العادل والشامل لن يتم طالما لم يحصل
الشعب الفلسطيني على حقه بدولته المستقلة"، وهو ما يعد لمزا في
التطبيع
الإبراهيمي، وهذا ما أعطى كلمة السيسي قيمة خاصة من بين كلمات القادة الذين حضروا
القمة، والذين جاءت كلماتهم روتينية، وكأنها مجرد سد خانة لإثبات الحضور الذي بدا
في أهزل صوره.
ربما جاءت الكلمة بهذه الطريقة كرد فعل على تجاهل دعوة
السيسي إلى القمة الخليجية الأمريكية في الرياض قبل 4 أيام من القمة، رغم أنه حضر
القمة السابقة في العام 2017، وربما بسبب الترتيبات السياسية والأمنية الإقليمية
التي تتجاهل
مصر، وربما أراد السيسي إيصال رسالة أنه لا حل ولا تسوية في فلسطين،
ولا توسيع للتطبيع بعيدا عن مصر، ولكن المتابع للموقف المصري الرسمي منذ بداية
الاجتياح الإسرائيلي لغزة يلحظ أنه رفض مبكرا فكرة تهجير أهل القطاع إلى مصر، وقدم
خطة لإعادة الإعمار تبقيهم في قطاعهم، وهو ما صعب المهمة على الجانب الإسرائيلي
وكفيله الأمريكي، ودفعهما للبحث عن مكان آخر..
ما يلفي بظلال من الشكوك حول مصداقية وجدية هذا الموقف؛ جملة من الإجراءات التي تقاعست السلطات المصرية عن القيام بها لمواجهة العدوان على غزة، بل على الحدود المصرية لفترة طويلة، ومن ذلك عدم اتخاذ موقف حاسم تجاه منع الكيان الصهيوني لدخول قوافل الإغاثة التي تكدست على الجانب المصري من الحدود
ما يلفي بظلال من الشكوك حول مصداقية وجدية هذا الموقف؛ جملة
من الإجراءات التي تقاعست السلطات المصرية عن القيام بها لمواجهة العدوان على
غزة،
بل على الحدود المصرية لفترة طويلة، ومن ذلك عدم اتخاذ موقف حاسم تجاه منع الكيان
الصهيوني لدخول قوافل الإغاثة التي تكدست على الجانب المصري من الحدود حتى فسدت
الكثير من محتوياتها نظرا لطول المدة، ورغم أن الكثير من النشطاء المصريين
والأجانب طلبوا السماح لهم بالدخول مع قوافلهم على مسئوليتهم الشخصية.
كما أظهرت تصريحات سابقة للسيسي خلال مؤتمر صحفي مع
نظيره الألماني أنه لا يعارض التهجير من حيث المبدأ، ولكنه يعارض التهجير إلى مصر
فقط، بدليل تقديمه نصيحة للجانب الإسرائيلي بتهجير أهل القطاع إلى صحراء النقب حتى
ينتهي جيش الاحتلال من مهمته الوحشية في القطاع!
ورغم أن مصر أعلنت رسميا تأهبها للانضمام إلى جنوب
أفريقيا في دعواها ضد جرائم الكيان الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية، وهو ما
لاقى ترحيبا واستحسانا شعبيا، إلا أنها تراجعت عن هذا التعهد دون أن تقدم تبريرا
لذلك، في الوقت الذي انضمت بالفعل العديد من الدول الأخرى إلى تلك الدعوى.
لقد رفضت مصر قبل أيام اعتماد السفير الإسرائيلي الجديد
أوري روتمان، كما قررت عدم تعيين سفير جديد لها في تل أبيب بعد انتهاء مدة عمل السفير
خالد عزمي، إلا أن هذا القرار جاء متأخرا أيضا رغم المطالبات الشعبية والسياسية
المتكررة منذ بداية العدوان واتساعه ليشمل ممر فيلادلفيا بالمخالفة لاتفاقية كامب
ديفيد وملاحقها.
لم تكن المطالبات تقتصر على سحب السفير المصري وطرد
نظيره الإسرائيلي من مصر، بل شملت في حدها الأعلى إلغاء اتفاقية السلام، وفي حدها
الأدنى وقف العلاقات التجارية مع الكيان، لكن ما حدث فعلا هو زيادة هذه المبادلات
خلال فترة الحرب الأخيرة بنسب كبيرة، حيث تبوأت مصر المركز الثاني بعد الإمارات
عربيا في التصدير للكيان وفقا لبيانات جهاز الإحصاء الإسرائيلي، فالصادرات ارتفعت
بنسبة 96 في المئة، وارتفعت قيمة الواردات المصرية من الكيان بنسبة 17 في المئة، من
2.5 مليار دولار عام 2023 إلى 2.9 مليار دولار في 2024. ومن السلع التي زادت
صادراتها؛ المنتجات الغذائية، والأسمدة، والمواد الكيماوية، والأدوية، والملابس
والمنسوجات، وألعاب الأطفال، ومستحضرات التجميل، وكانت القفزة الأكبر في صادرات
الإسمنت المصري التي تضاعفت 13 مرة، بعد توقف تركيا عن تصدير الإسمنت للكيان،
ومعروف أن الاسمنت يستخدم في بناء المستوطنات والمنشآت العسكرية الإسرائيلية.
الترحيب بالموقف الرسمي الرافض للتهجير لا ينسينا ما فعله النظام نفسه من تهجير لأهل سيناء، وحرمانهم من بيوتهم، واعتقال المئات منهم بسبب مطالبتهم بحق العودة إلى دورهم، وقبل ذلك وبعده لا يمكن التغافل عن سياسات النظام القمعية على مدى السنوات الاثنتي عشرة الماضية، والتي قتلت مئات بل آلاف المصريين في اعتصامات سلمية، أو مظاهرات سلمية، أو محاكمات عبثية جائرة، واعتقال عشرات الآلاف من المعارضين، وإدراج الكثيرين على قوائم الإرهاب
لم تسمح مصر على مدى عام ونصف العام بخروج مظاهرات منددة
بالعدوان باستثناء مظاهرتين نظمتهما أجهزة السلطة، واحدة بعد أسبوعين من العدوان
(20 تشرين الأول/ أكتوبر 2023) والثانية في الثامن من نيسان/ أبريل الماضي أمام
معبر رفح (حيث كان الحضور انتقائيا من الأجهزة الأمنية لمنع أي نشطاء سياسيين
حقيقيين من المشاركة). وقد بدت المظاهرتان باهتتين، وغير مقنعتين لأحد داخل مصر أو
خارجها، كما نظم نشطاء سياسيون مظاهرات محدودة على سلالم نقابة الصحفيين خلال
رمضان الماضي، وقبل يومين في الذكرى السابعة والسبعين للنكبة، واعتقلت السلطات
الأمنية المصرية مئات النشطاء بتهمة التحضير للتظاهر في مناطق متعددة.
ورغم حرمان الشعب المصري من التظاهر السلمي بشكل طبيعي
وحر، فإن حملات الدعم والمناصرة الشعبية بلغت مستوى عظيما على مدى الشهور الماضية،
ولم تتوقف رغم إغلاق المعبر أمامها على أمل فتحه في أي وقت، كما نشطت حملات
المصريين في مقاطعة منتجات الدول والشركات الداعمة للعدوان، والتأكيد على رفض
التطبيع مع الكيان. وكانت أحدث حلقات ذلك في قرارات الجمعية العمومية لنقابة
الصحفيين قبل أيام قليلة.
الموقف المصري تجاه التهجير تحديدا بدا موقفا وطنيا
جامعا، لأول مرة منذ انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013، وهذا لا يعني السكوت أو
الرضا بسياسات النظام الخارجية الأخرى التي قزمت مصر إقليميا، لتحل محلها دول
عربية أخرى، ولتجعل مقعد السيسي في الصفوف الخلفية في بعض المناسبات الدولية؛
يتقدمه رؤساء دول أقل شأنا من مصر.
كما أن الترحيب بالموقف الرسمي الرافض للتهجير لا ينسينا
ما فعله النظام نفسه من تهجير لأهل سيناء، وحرمانهم من بيوتهم، واعتقال المئات
منهم بسبب مطالبتهم بحق العودة إلى دورهم، وقبل ذلك وبعده لا يمكن التغافل عن
سياسات النظام القمعية على مدى السنوات الاثنتي عشرة الماضية، والتي قتلت مئات بل
آلاف المصريين في اعتصامات سلمية، أو مظاهرات سلمية، أو محاكمات عبثية جائرة،
واعتقال عشرات الآلاف من المعارضين، وإدراج الكثيرين على قوائم الإرهاب بما يتبعه
من تجميد ومصادرة ممتلكات ومنع من السفر إلخ.
في هذا الوقت الذي يعاد فيه رسم خارطة المنطقة وتُستهدف
مصر في أمنها القومي، فإن السلاح الأمضى لمواجهة ذلك هو جبهة وطنية داخلية متماسكة،
وهذا يتطلب إنهاء الانسداد السياسي، عبر الإفراج الفوري عن جميع المعتقلين
السياسيين، وفي مقدمتهم معتقلو مظاهرات غزة، وكبار السن والمرضى والنساء، وإعادة
المفصولين إلى وظائفهم، وإصدار قانون للعدالة الانتقالية وفقا لما نص عليه الدستور؛
يعطي كل ذي حق حقه، وإجراء انتخابات برلمانية نزيهة برقابة قضائية، وتنافسية
شفافة، والاستعداد لانتخابات رئاسية تنافسية حقيقية تكون نهاية لكل هذه الآلام.
x.com/kotbelaraby