كتاب عربي 21

دونالد ترامب والدبلوماسية العالمية

وسام سعادة
ترامب خلال لقائه بقادة الخليج في الرياض- واس
ترامب خلال لقائه بقادة الخليج في الرياض- واس
إذا ما استعنا بزيارة الأيام الأخيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى كل من الرياض والدوحة وأبو ظبي هل تبرز أمامنا وقائع ومناخات تصب فيها هذه الجولة في خانة ما اجترحه عالم السياسة الفرنسي – الإيراني الأصل – برتران بديع من تصور يجازف بالحديث عن أفول الجيوبوليتيكا والانتقال من زمن العلاقات بين الدول، إلى زمن العلاقات بين المجتمعات؟ أم أنه بالعكس تماماً ثمة سهولة وإغراء أكبر بما لا يقاس، لأجل تجنيد عدد من الملامح والعناصر، لاستخلاص ما يخالف ذلك تماماً؟ أليست اللحظة للتفاوض بين «الدول»، في شكله الأكثر كلاسيكية، حيث من يقرّر يفاوض، ومن يفاوض يقرّر؟
ألا تشكل الصفقات العسكرية ركناً محورياً في هذه الزيارة؟ هذا فيما المروحة واسعة، وتشمل اتفاقات تغطي مجالات الدفاع الجوي، والقواعد العسكرية، والأمن البحري، وتكنولوجيا الاتصالات، والذكاء الاصطناعي ومركز بياناتها وتوريد أشباه الموصلات، والطاقة والطيران، والتعاون مع الناسا لاستكشاف الفضاء. هل يمكن – بالمحصلة – التقليل من القيمة «الجيوبوليتيكية» لهذه الزيارة عند احتساب كل هذا، أم أن الجيوبوليتيكي في هذا المجال بات ينصهر صهراً بالجيو-اقتصادي، والجيو-تكنولوجي، في حين بدت «سياسات الهوية» وكأنها تذمّ وتضمحل أمام الرقم المالي الإجمالي لمجموع الاتفاقات والعقود الموقعة في ساعات قليلة، وأمام مشهد يبدو فيه أن العلاقات في عالم اليوم هي من فوق إلى فوق أكثر من أي وقت مضى، وليست علاقات أفقية تحت – تحت، بين مجتمع وآخر، على ما يمكن أن يستوحى من حديث برتران بديع عن «العلاقات بين المجتمعات» أو «الاجتماعيات البينية»؟
كذلك بالنسبة لاستشراف المسار الذي ستسلكه الأمور في سوريا، بعد حركة ترامب في اتجاه الوضع الانتقالي فيها، وحيال إيران، على محك التفاوض معها، وحتى بالنسبة إلى كل القيل والقال حول العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية، والاتفاقات الإبراهيمية والصورة «النهائية» التي يجري العمل على أن يفضي اليها مخاض العقود الطويلة من التجارب العسيرة التي كابدتها – بشكل متفاوت وغير متزامن- شعوب الإقليم. ألم تحضر سوريا فقط من ناحية علاقتها بسواها من الدول، وغابت كجماعات ومناطق؟
وأي دور للمجتمعات المدنية، للمنظمات غير الحكومية، للحراكات الاجتماعية، في كل هذا كي يقال إن طفرة في العلاقات الدولية تؤسس لتقدّم الاجتماعي على السياسي بعد أن ساد العكس لقرون طويلة، كان فيها الديبلوماسي والجندي، كلّ في مضماره، فارسين متفانيين في خدمة الأمير الحديث، صاحب السيادة، الدولة الترابية «الفيستفالية» المناددة لسواها؟
من هذه الناحية، تبدو وقائع وأصداء جولة ترامب في الشرق الأوسط والتي تأتي من بعد تدخله السريع لوقف التدهور في اتجاه «الحرب الخامسة» بين الهند وباكستان، هذا بعد يومين من الدخول عملياً في وضعية الاحتراب بينهما، كما لو أنها تظهر قدرة فائقة النظير لا تزال تملكها الدولة، بدءاً من الدولة العظمى الأمريكية، لكن أيضا كل الدول المعنية بكل الملفات في جنوب آسيا والشرق الأوسط، والتي تتصرف في الوقت الحالي كما لو أنه ما من تحرك مليوني واسع النطاق للجماهير في الأفق، ولسنوات إلى الأمام، بحيث أن نيودلهي وإسلام آباد يمكنهما الشروع في حرب من دون أن تسأل الناس في البلدين رأيها، وأن تعود فتوقف الحرب فجأة، تحت ضغط أمريكي، من دون أن يكون عليها أن تقلق لمكاشفة الناس، بل تكتفي بأنها رفعت سقف المواجهة، لأجل أمن وكرامة ناسها، وأوقفتها أيضاً كرمى لناسها.
وفي الشرق الأوسط أيضاً، أليس هذا عصر التفاوض بين قادة الدول بامتياز، إن لجهة التراجع شبه المطلق لظهور «الجماهير» على مسرح الأحداث – لا سيما في البلدان العربية، وإن لجهة كل ما يطبخ حول طي صفحة «هيمنة الميليشيات» من تاريخ المنطقة؟ مثل هذه الطبخات لا تزال مبهمة من حيث المقادير والمكونات وطريقة التحضير وأمده، فهنا تريد من دولة أن تذوب ميليشيا في جهازها، وهناك تريد انبعاث الدولة في مجتمع تمليش حتى الترع، وعلى القارعة أيضاً حقل تجارب يراد فيه لميليشيات أن تتجاوز نفسها لتغدو دولة. المنطقة حقول تجارب حافلة وغير مسبوقة بهذا الشكل. لكن، على مستوى العلاقات، مشهد العلاقات، الاتفاقات، العقود، الصفقات، القمم، ألا تبدو أكثر «دولتية»، أو بالأحرى «ريغالية»، سيادوية، من مرجعية على رأس دولة إلى مرجعية على رأس دولة أخرى؟ ألن يعزز المسار التفاوضي المنتظر أن يرعاه ترامب بين فلاديمير بوتين وفولوديمير زيلينسكي هذا الوجه، العلاقة بين قادة يحددون المصائر، وليس بين «اجتماعيات بينية» روسية وأوكرانية؟
يبدو المشهد إذن، إن في جولة ترامب في منطقة الخليج، أو في تدخله لوقف الحرب الخامسة في جنوب آسيا، أو في مساعيه الهادفة إلى وقف الحرب بين الروس والأوكران، كما لو أنها، على العكس تماماً مما ذهب إليه برتران بديع، ترسخ «أصالة الجيوبوليتيكا» من ناحية، والطبيعة «الدولتية» بل «الملكية» تماماً للعلاقات بين الأمم.
بيد أن العلاقات الدولية في لجة كل هذه المشاهد الصاخبة الأخيرة، والتي تكاد تحيل المشاهدين المهتمين، إلى المعادلة الرومانية القديمة التي تفيد بأن إرضاءهم هو من خلال «الخبز والسيرك» ، أو بترجمة أدق «الخبز والألعاب» لا شيء غير، ذاهبة إلى دفن السمة التي راهن عليها تحليل برتران بديع تحت سابع أرض. فعن أي «علاقات بين المجتمعات» نتحدث عندما نرى الأحوال وكأنها تنقلب في لحظات من اتصال الرؤوس بعضها ببعض؟ مع هذا، درجة ابتعاد المشهد الحالي عن استشراف بديع مضللة في مكان ما، بل في مكان أساسي. التصور الكلاسيكي، حول الجندي والديبلوماسي، كفارسين متفانيين في خدمة الأمير بالمطلق، الدولة، كان ينبني أصلا على دور حيوي، حركي، لهما. ما يحصل منذ سنوات، في منطقتنا، ولكن على مستوى العالم أيضا، أن العصر الذهبي لوزراء الخارجية باتت تفصلنا عنه عقود. الديبلوماسية البديلة اليوم هي دبلوماسية قادة الأجهزة الاستخبارية، وإما ممثلو الشركات الكبرى التي تسيطر على قطاعات التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي والصناعات العسكرية والطاقة.
في أمريكا، يبدو أن دور البنتاغون كما الخارجية قد تضاءل لصالح الرئيس نفسه. هذه «الشخصنة» الزائدة هي أيضاً شكل، ولو كان فظاً، من أشكال «الاجتماعية البينية»، من أشكال التحول من العلاقات بين الدول، إلى العلاقات بين المجتمعات، ولو تأتى ذلك من خلال اختزال هذه المجتمعات في التفويض الذي تعطيه لقادتها، بسند أو من غير سند. اللفيف الذي اصطحبه ترامب في زيارته جدير بالتشريح هنا. خليط من المستشارين ورؤساء الشركات. خليط يجسد على طريقته روح الرأسمالية المعاصرة، من حيث أنها تذهب بالعلاقات الدولية من ناحية، نحو تحويل دور الشعوب فيها إلى ثنائية «الخبز والسيرك» ليس غير، فيما تذهب بدور ثنائية «الدفاع والديبلوماسية» إلى طفرة غير مسبوقة، يتقدم فيها الخليط من قادة الأجهزة الأمنية الاستخبارية وأمراء الشركات الكبرى على حساب النسق البيروقراطي التراتبي كما عهدناه في عصر الدول – الأمم.
(القدس العربي)
التعليقات (0)

خبر عاجل