في
آخر تواصل له قبل وفاته بيومين، اتصل البابا فرنسيس بأهالي
غزة، مانحا إياهم بركاته.
منذ أن بدأت
إسرائيل حربها الإبادية على الشعب
الفلسطيني في غزة، واظب البابا فرنسيس،
بخلاف معظم القادة الغربيين المتواطئين في هذه الإبادة، على تواصل وثيق ومنتظم مع الفلسطينيين،
وخاصة مسيحيي غزة، عبر مكالمات فيديو متكررة، كان خلالها صوتا نادرا في الغرب يصدح
دفاعا عن شعب مستعمَر.
ولهذا
السبب، تلقى الفلسطينيون في غزة، بمن فيهم الطائفة المسيحية الصغيرة، نبأ وفاة البابا
فرنسيس بحزن شديد. في المقابل، لم يخفِ بعض الإسرائيليين شماتتهم، بل وابتهاجهم بموت
البابا. منذ بدء حملة الإبادة الإسرائيلية في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، دأب البابا
فرنسيس بالاتصال بفلسطينيي غزة المسيحيين عدة مرات أسبوعيا للاطمئنان عليهم و"تأدية
الصلوات من أجلهم وتشجيعهم والتضامن معهم."
تصاعدت
وتيرة انتقادات البابا فرنسيس، الأرجنتيني الأصل، للعدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين
في الشهور الأخيرة من حياته. ففي احتفالية عيد الميلاد بساحة القديس بطرس في
الفاتيكان،
في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وضع تمثالا للطفل يسوع متّشحا بالكوفية الفلسطينية
إلى جانب شجرة العيد، في إشارة رمزية بليغة لتضامنه مع ضحايا العدوان. وفي تعليق له
على جرائم إسرائيل، لم يتردد في توصيف المجازر بحق المدنيين الفلسطينيين بوضوح، قائلا:
"هذه قسوة، وليست حربا".
أثار إصرار البابا فرنسيس المستمر، حتى قبيل وفاته، على التضامن مع فلسطينيي غزة، غضب الحكومة الإسرائيلية وقيادتها، التي شجبت موقفه الرافض للإبادة الجماعية التي ترتكبها. ولم تكتفِ إسرائيل بإبداء استيائها، بل أبدت شماتة واضحة برحيله؛ إذ سارعت وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى حذف نعيها وتعزيتها بالبابا الراحل من حسابها الرسمي على منصة إكس (تويتر سابقا)، وأصدرت تعليمات إلى بعثاتها الدبلوماسية حول العالم باتباع الخطوة ذاتها
وفي
وقت سابق من عام 2024، كتب: "وفقا لبعض الخبراء، فإن ما يحدث في غزة يحمل سمات
الإبادة الجماعية، ويجب التحقيق في ذلك بعناية لتحديد ما إذا كان يتوافق مع التعريف
الفني الذي صاغه الفقهاء القانونيون والهيئات الدولية". وفي الشهر الماضي، وبعد
أن استأنفت إسرائيل حربها الإبادية، عبّر البابا مجددا عن قلقه قائلا: "أشعر بالحزن
لاستئناف القصف الإسرائيلي العنيف على قطاع غزة، مما تسبب في سقوط العديد من القتلى
والجرحى. أدعو إلى وقف فوري للقتال، وإلى التحلي بالشجاعة لاستئناف الحوار، حتى يتسنى
إطلاق سراح جميع الرهائن والتوصل إلى وقف نهائي لإطلاق النار".
لقد
شهدت علاقة الفاتيكان بالشعب الفلسطيني تحولا جذريا عبر القرون. فالبابا فرنسيس، الذي
كرّس سنواته الأخيرة لمناصرة الفلسطينيين، يقف على النقيض التام من البابا أوربان الثاني،
الذي أطلق في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1095 الدعوة إلى غزو فلسطين مدشّنا "الحملة
الصليبية الأولى". وفي خطابه الشهير، خاطب أوربان الصّليبيّ الأوروبيين الذين
اعتنقوا المسيحية الفلسطينيّة، قائلا:
"اسلكوا
الطريق المؤدي إلى القبر المقدس؛ انتزعوا تلك الأرض من الجنس الشرير، وأخضعوها لأنفسكم..
هذه المدينة الملكية، الواقعة في قلب العالم، أسيرة اليوم في يد أعداء الله، خاضعة
لأولئك الذين لا يعرفون الله، عبدة الأوثان. لذلك فهي تسعى وترغب في التحرر ولا تكف
عن التوسل إليكم لمساعدتها، وتستغيث بكم على وجه الخصوص لإنقاذها".
بما
أن غالبية سكان القدس الأصليين آنذاك كانوا مسيحيين ناطقين بالعربية، ممن أطلق عليهم
الصليبيون اسم "السريانيين"، فقد سعى البابا أوربان إلى "إنقاذهم"
من المسلمين، رغم أن أحدا من هؤلاء المسيحيين الشرقيين لم يتقدم بشكوى أو مناشدة للبابوية
طلبا للنجدة. في المقابل، لم يسعَ البابا فرنسيس لغزو الفلسطينيين، بل أراد إنقاذ مسيحيي
غزة ومسلميها من الغزو الإسرائيلي ومن الإبادة الجماعية التي يتعرضون لها.
في
القرن السابع عشر، امتد مشروع الفاتيكان التبشيري الجديد، المعروف باسم "بروباغندا
فيدي" أو "دعوة الإيمان"، ليشمل فلسطين، إذ زار كاهن ألماني، يُدعى
دومينيكوس جيرمانوس دي سيليزيا، فلسطين لتعلم اللغة العربية، وقام بإعادة ترجمة الكتاب
المقدس إلى العربية، وهي الترجمة التي نشرها الفاتيكان عام 1671، علما بأن الترجمات
العربية للكتاب المقدس تعود إلى القرن الثامن على الأقل، عندما تحولت الغالبية العظمى
من المسيحيين واليهود في سوريا وفلسطين ومصر لغويا من الآرامية والقبطية إلى العربية.
ومع
ذلك، ظل النشاط التبشيري محدودا، ولم يُعد تأسيس البطريركية اللاتينية في القدس -التي
أنشئت في عهد الحروب الصليبية عام 1099 وتم تفكيكها بعد الطرد النهائي للصليبيين الفرنجة
عام 1291 من فلسطين- إلا في عام 1847 إبان الحكم العثماني.
مع
إعادة إنشاء البطريركية اللاتينية، تصاعدت جهود التبشير الكاثوليكي الفرنسي في فلسطين.
فإلى جانب السعي لتبشير المسيحيين العرب في سوريا وفلسطين خلال القرن السابع عشر، كان
الهدف الآخر هو حثّ الكنائس الشرقية على الإذعان لسلطة البابا. وقد حققت الحملات التبشيرية
التي قادها مبعوثو الكنيسة اللاتينية نجاحا ملحوظا بين بعض التجار الفلسطينيين الأرثوذكس.
وفي أعقاب حرب القرم، تنامى عدد المدارس والجمعيات الخيرية اللاتينية التي رعاها الفرنسيون
بشكل لافت، بما في ذلك مدرسة "أخوات القديس يوسف" و"أخوات القديس فنسنت
دي بول" و"فتيات المحبة". وقد تأسست مدرسة "كلية الفرير"
في القدس عام 1875، وعلى الرغم من انتمائي لعائلة عربية مسيحية شرقية أرثوذكسية، فقد
التحق والدي بفرع "كلية الفرير" في يافا قبل النكبة، فيما التحقت أنا بفرعها
في عمّان بعد النكبة.
في
العصر الحديث، ومع نجاح الحملة الصليبية الصهيونية في احتلال فلسطين وإقامة دولة إسرائيل
عام 1948، ظلّ موقف الفاتيكان متذبذبا، واستمر هذا التردد حتى شهر كانون الثاني/ يناير
1964 عندما قام البابا بولس السادس، الإيطالي الأصل، والذي شغل الكرسي البابوي من عام
1963 إلى عام 1978، بزيارة القدس الشرقية، التي كانت تحت حكم الأردن آنذاك، حيث أمضى
بضع ساعات في مدينة الناصرة (التي كانت جزءا من الدولة الفلسطينية بحسب قرار التقسيم
الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947، قبل أن تحتلها إسرائيل عام 1948). أما باقي زيارته
القصيرة التي امتدت يومين، فقد أمضاها في الأردن. وقد كانت هذه أول زيارة لبابا يشغل
كرسي البابوية لفلسطين. لم يكن الفاتيكان حينها يعترف بإسرائيل، وفي الواقع، لم يُقم
الكرسي الرسولي علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل إلا بعد بضعة أشهر من استسلام منظمة
التحرير الفلسطينية لإسرائيل بتوقيعها اتفاقيات أوسلو في أيلول/ سبتمبر 1993. وقد كان
ذلك في شهر كانون الأول/ ديسمبر 1993، حيث تم تبادل السفراء بينهما في كانون الثاني/
يناير 1994.
في
آذار/ مارس 2000، زار البابا البولندي اليميني المناهض للشيوعية، يوحنا بولس الثاني،
المتحالف مع إدارة رونالد ريغان، إسرائيل، حيث زار متحف "ياد فشم" للمحرقة
وحائط البراق، أو ما يسمى في إسرائيل بـ"الحائط الغربي." كما زار البابا
مدينة بيت لحم، حيث استقبله ياسر عرفات بحفاوة. لم يمضِ البابا سوى يوم واحد في الضفة
الغربية، حيث أقام قداسا في ساحة المهد. وقد أعلن عرفات ليوحنا بولس في حفل استقبال
رسمي حضره قادة فلسطينيون ودبلوماسيون ورجال دين: "مرحبا بكم في وطننا".
رغم وقوف البابا فرنسيس إلى جانب شعب غزة، الذي ما زال يواجه الآلة العسكرية الإسرائيلية الإبادية، ودعمه العميق له، إلا أن مواقفه لم تترجم إلى خطوات دبلوماسية عملية. فلم يطرد السفير الإسرائيلي من الفاتيكان ولم يسحب سفير الفاتيكان من إسرائيل، ولم يُفكّر حتى في تعليق العلاقات الثنائية
بعد
تسع سنوات، في أيار/ مايو 2009، قام البابا الألماني بنديكت السادس عشر، الذي خدم في
فيلق شباب هتلر في الثلاثينيات، بجولة شملت الأردن وإسرائيل والضفة الغربية. وقد تحدث
خلال تواجده في إسرائيل عن أهوال وجرائم وطنه ألمانيا، ودعا كل من الإسرائيليين والفلسطينيين
إلى "العيش بسلام في وطن خاص بهم ضمن حدود آمنة ومعترف بها دوليا". وبعد
أن تحدث في القدس الشرقية في حفل حوار بين الأديان، أمسك تيسير التميمي، رئيس المحاكم
الشرعية الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة، بالميكروفون وانتقد إسرائيل باللغة العربية
وسط تصفيق كثيرين من الحضور. لم يرد البابا، لكن الفاتيكان أصدر إدانة، قائلا في بيان
إن "هذا التدخل كان نفيا مباشرا لما ينبغي أن يكون عليه الحوار".
وقد
انتقد البابا بنديكت أثناء وجوده في مدينة بيت لحم جدار الفصل العنصري الإسرائيلي،
وأعرب عن دعمه للفلسطينيين في غزة الذين كانوا قد تعرضوا قبل بضعة أشهر من زيارته لهجوم
إسرائيلي إجرامي أودى بحياة أكثر من 1400 فلسطيني. وكما كان متوقع، غضبت إسرائيل من
انتقاداته. قدّم البابا نقشا بارزا كبيرا لـ"شجرة يشاي" (أي شجرة عائلة المسيح)
نحتها الفنان البولندي تشيستاف دجفيغاي إلى كنيسة المهد كهدية لفلسطينيي بيت لحم.
وعندما
زار البابا فرنسيس القدس عام 2014، فاجأ الجميع حين طلب من سائقه التوقف بجانب جدار
الفصل العنصري المغطى برسوم غرافيتي تُشبّه بيت لحم بغيتو وارسو (معقل مقاومة اليهود
البولنديين للإبادة النازية)، ونزل ليصلي هناك. وقد أثارت صورته وهو يصلي في ذلك المكان
"حماسة الفلسطينيين وغضب الإسرائيليين".
في
رسالته العلنية الأخيرة بمناسبة عيد الفصح، الأسبوع الماضي، تحدث البابا فرنسيس مرة
أخرى عن الحرب على الشعب الفلسطيني، معبرا عن ألمه تجاه معاناة فلسطينيي غزة الذين
تقوم إسرائيل بتجويعهم حاليا بمنعها جميع الإمدادات الغذائية من دخول غزة: "أفكر
في شعب غزة، ومجتمعها المسيحي على وجه الخصوص، حيث لا يزال الصراع الرهيب يُسبب الموت
والدمار ويخلق وضعا إنسانيا مأساويا ومُحزنا".
لقد
أثار إصرار البابا فرنسيس المستمر، حتى قبيل وفاته، على التضامن مع فلسطينيي غزة، غضب
الحكومة الإسرائيلية وقيادتها، التي شجبت موقفه الرافض للإبادة الجماعية التي ترتكبها.
ولم تكتفِ إسرائيل بإبداء استيائها، بل أبدت شماتة واضحة برحيله؛ إذ سارعت وزارة الخارجية
الإسرائيلية إلى حذف نعيها وتعزيتها بالبابا الراحل من حسابها الرسمي على منصة إكس
(تويتر سابقا)، وأصدرت تعليمات إلى بعثاتها الدبلوماسية حول العالم باتباع الخطوة ذاتها،
كما أصدرت أمرا داخليا للسفراء الإسرائيليين بعدم توقيع دفاتر التعازي المفتوحة في
سفارات الفاتيكان. وفي تعبير إضافي عن الغضب الرسمي، امتنع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو
عن إرسال أي رسالة تعزية، بينما اكتفى الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ -الذي يضطلع
بمنصب شرفي بالأساس- بتوجيه برقية تعزية مقتضبة.
ورغم
وقوف البابا فرنسيس إلى جانب شعب غزة، الذي ما زال يواجه الآلة العسكرية الإسرائيلية
الإبادية، ودعمه العميق له، إلا أن مواقفه لم تترجم إلى خطوات دبلوماسية عملية. فلم
يطرد السفير الإسرائيلي من الفاتيكان ولم يسحب سفير الفاتيكان من إسرائيل، ولم يُفكّر
حتى في تعليق العلاقات الثنائية، على الرغم من أن دولا مثل كولومبيا وبوليفيا وهندوراس
وبيليز وتشيلي وتشاد وتركيا والبرازيل وجنوب أفريقيا قد أقدمت على سحب سفرائها أو خفض
علاقاتها احتجاجا على الحرب الإسرائيلية. وبذلك ظل دعم البابا الشخصيّ للشعب الفلسطيني
مقتصرا على البُعد الأخلاقي والوجداني، دون أن يمتد إلى الساحة الدبلوماسية.