اهتزت الأوساط الطبية في
مصر فور موافقة مجلس النواب بصورة نهائية
يوم 25 مارس 2025 على مشروع
قانون "المسؤولية الطبية وحماية المريض" بعد جلسات المناقشة العامة على مدى ثلاثة أيام فقط؛ وبدون أية مناقشات أو
حوارات مجتمعية أو مهنية حقيقية، حيث قرر نقيب الأطباء إلغاء الجمعية العمومية
الطارئة والتي كان من المقرر عقدها يوم 3 يناير 2025؛ وذلك لأسباب أمنية، وتهديدات
من وزير
الصحة حيث أعلن أن "الدولة
أقوى من الجمعية العمومية وأقوى من السوشيال ميديا".
أولا ـ قانون المسؤولية الطبية كان حلما للأطباء منذ ثلاثين سنة
وحولته الحكومة إلى كابوس مزعج للجميع:
فكرة وجود القانون ترجع لأكثر من ثلاثين عاما، حيث تم دعوة د. سماعيل سلام وزير الصحة ومعه كبير الأطباء
الشرعيين بوزارة العدل للحضور لاجتماع مجلس نقابة الأطباء مع مجالس النقابات
الفرعية بالمحافظات خلال فعاليات احتفالات يوم الطبيب 18 مارس عام 1996، وكان د.
حمدي السيد نقيب الأطباء هو رئيس لجنة الصحة بمجلس الشعب وقتها؛ والذي تحدث
بالفعل عن فكرة مشروع لقانون للمسؤولية الطبية داخل المجلس عدة مرات كان آخرها عام 2009، وعلى مدار هذه السنوات
تقدم نواب من الأغلبية والمعارضة بمشروعات قوانين متعددة كانت تُعطلها إشكالية التوافق على ضوابط
الأخطاء الطبية وطبيعة العقوبات التي تفرض على الطواقم الطبية حال وقوع جرائم
مهنية أثناء تأدية عملها، حتى كشفت
الحكومة عن مشروعها الأخير في نهاية شهر نوفمبر 2024، والذي وافق عليه مجلس
الشيوخ، وقيل وقتها إن القانون يهدف إلى "تحقيق التوازن المطلوب بين توفير
حماية قانونية لحقوق المرضى وبين ضمان بيئة عمل آمنة للأطقم الطبية، من خلال وضع
معايير قانونية عادلة لمُساءلة الأطباء، وقانوناً بما يحمي حقوق المرضى ويمنع من
حدوث أي إهمال طبي؛ وفي الوقت ذاته يؤكد على حق الأطباء في أن يتم توفير بيئة آمنة
ماديا ومعنويا وقانونيا لممارسة رسالتهم الإنسانية".
ولكن القانون الذي قدمته الحكومة جاء مثل الكابوس وأربك المجتمع
الصحي والمدني؛ وكأن الفكرة كانت في وضع صياغة عنيفة وبالغة القسوة ضد الأطباء
بصورة عامة حتى يمكن المساومة حولها
وذلك بداية من الاسم الأصلي وهو "قانون المسؤولية الطبية وحماية المريض" بما يحمله من فرضية وجود خطر على
المريض، إلى مواد صريحة تنص على حبس الطبيب فور وجود مشكلة والتلويح بغرامة تصل لمليون جنيه لصالح الدولة؛ دون تحديد طبيعة تلك المشكلة وتداعياتها على الحالة الصحية للمريض، إضافة إلى
جباية أموال من الفريق الطبي لإنشاء صندوق يساهم بنسبة في التعويضات التي يحصل
عليها المريض.
وجاء سيناريو المناقشات بعدها متوافقا مع خطة الحكومة حيث تم حذف
المادة التي تنص صراحة على الحبس ولكن بقيت مواد أخرى مضمونها هو حبس الطبيب أو
مقدم الخدمة الصحية، وفي حين أشاد أعضاء البرلمان بالنص على إنشاء لجنة المسؤولية
الطبية التابعة لمجلس الوزراء ولها فروع تنتشر بالمحافظات وتختص بتقدير حجم الضرر
وخطورته على صحة المريض؛ إلا أنه لم يتم الاستجابة لطلب النقابة بأن يكون قرار
اللجنة ملزما للقاضي، وزاد عليه بأنه يجوز للنيابة استدعاء الطبيب للتحقيقات قبل
أن يصدر القرار الفني والمهني من اللجنة بتوصيف طبيعة المشكلة وتلك سلبية خطيرة
جدا تنسف مصداقية القانون من أساسها لأن الطبيب قد يجد نفسه عرضة لتحقيقات مطولة
في قضية هو بريء منها، والمثير للغرابة كان في أن رئيس لجنة الصحة بمجلس النواب، وهو وزير سابق
للصحة، أعلن بأن النص على إلزام
النيابة بتأجيل التحقيقات لحين ورود تقرير
لجنة المسؤولية الطبية هو أمر غير دستوري،
ولكن يمكن لمجلس النواب القيام بمخاطبة النائب العام وديا بمراعاة ذلك عند بدء
تنفيذ القانون، وهذا بالطبع مقترح خارج إطار المنطق!!!
لكن القانون الذي قدمته الحكومة جاء مثل الكابوس وأربك المجتمع الصحي والمدني؛ وكأن الفكرة كانت في وضع صياغة عنيفة وبالغة القسوة ضد الأطباء بصورة عامة حتى يمكن المساومة حولها وذلك بداية من الاسم الأصلي وهو "قانون المسؤولية الطبية وحماية المريض" بما يحمله من فرضية وجود خطر على المريض، إلى مواد صريحة تنص على حبس الطبيب فور وجود مشكلة والتلويح بغرامة تصل لمليون جنيه لصالح الدولة؛ دون تحديد طبيعة تلك المشكلة وتداعياتها على الحالة الصحية للمريض، إضافة إلى جباية أموال من الفريق الطبي لإنشاء صندوق يساهم بنسبة في التعويضات التي يحصل عليها المريض.
وفي حين تم إدخال تعديل جوهري خفّض الغرامة المفروضة على الخطأ الطبي
من مليون جنيه مصري إلى 100 ألف جنيه، فإن فرض الغرامات في القانون حتى وإن كانت رمزية يُعد إدانة للطبيب وتحويله إلى
متهم جنائي، حيث أن العلاقة بين الطبيب والمريض مدنية تعاقدية وليست جنائية
بطبيعتها، كما أنه توجد سلبية خطيرة في تعريف الخطأ الطبي الجسيم بأنه "الخطأ الطبي الذي يبلغ حداً من
الجسامة، بحيث يكون الضرر الناتج عنه محققاً، ويشمل ذلك، على وجه الخصوص، ارتكاب
الخطأ الطبي تحت تأثير مسكر أو مخدر أو غيرها من المؤثرات العقلية، أو الامتناع عن
مساعدة من وقع عليه الخطأ الطبي أو عن طلب المساعدة له، على الرغم من القدرة على
ذلك وقت وقوع الحادثة وعقوبته الحبس والغرامة أو إحداهما"، وهذا التعديل يشمل
صياغة أقل سوءاً من السابقة، إلا أنها ما زالت مطاطة وتسمح باختلاف التأويل، فقد
تضمّنت عبارة "على وجه الخصوص"، ولم تتضمن "على وجه الحصر".
كما تضمنت عبارة (أو الامتناع عن طلب المساعدة في حالات الأخطاء)،
رغم أن طلب المساعدة هو أمر علمي تقديري، وطالما أن تقرير اللجنة غير ملزم فهذا قد
يمثل مشكلة كبيرة في تقدير الأمر.
والنص على إنشاء صندوق تأمين
حكومي للتأمين ضد الأخطار والأضرار الناجمة عن الأخطاء الطبية مهم جدا؛ ولكن لم يتم النص على تغطية (جميع) التعويضات صراحة،
كما لم يتم النص على تغطية الغرامات إطلاقا، وقد نصت المادة على أن التأمين سيكون
وفقا لأحكام "وثيقة التأمين" وهو شرط غامض خاصة وأنه لا بد من خضوعه
لتقرير من الخبير الاكتوارى كما أعلن وزير الصحة أثناء المناقشات؛ ولكن القانون
لم يتناول أية تفاصيل، في حين أشار إلى جواز مساهمة الصندوق في تغطية الأضرار
الأخرى التي تلحق بمتلقي الخدمة وهي عبارة فضفاضة ومثيرة للقلق.
وتوجد مواد أخرى تمت إضافتها تشمل عقوبات هزيلة وغير رادعة نحو
التعدي على المنشآت الصحية وعلى العاملين فيها وعقوبات نحو البلاغ الكاذب وجميعها
يلزمها تحديد إجراءات عملية لضمان التنفيذ.
وأخيرا تجب الإشارة إلى المادة (23) والتي لم يتم أي تعديل فيها حيث
تنص على "مع عدم الإخلال بأي عقوبة أشد منصوص عليها في أي قانون آخر، يعاقب
على الأفعال المبينة في المواد التالية بالعقوبات المنصوص عليها"؛ وهذا النص
يفتح الباب لإمكانية محاكمة الطبيب بموجب أي مادة من مواد قانون العقوبات طبقا
لتوصيف الاتهام وليس فقط بموجب قانون المسؤولية الطبية وهو قانون خاص يجب أن يقيد
القانون العام.
ثانيا ـ حزمة القوانين الأخرى سيئة السمعة والتي تعصف بخدمات الرعاية
الصحية في مصر بصورة عامة:
الواقع هو أن الرعاية الصحية في مصر تمر حاليا بمرحلة خطيرة ومنعطف
صعب؛ حيث يتم محاصرة الأطباء تحديدا والفريق الطبي بصورة عامة بعدد من القوانين
والإجراءات سيئة السمعة التي تمارسها الحكومة؛ مثل:
1 ـ قانون التصالح في المباني وفيه يتم إجبار الطبيب على سداد مبالغ
مالية كبيرة بحجة أن العيادة في مبنى سكني ويجب أن تكون في مبنى إداري؛ وبالرغم من
اجتماع مجلس نقابة الأطباء مع وزيرة التنمية المحلية، إلا أن غلق العيادات
المخالفة مازال مستمرا وبأثر رجعي وغير منطقي.
2 ـ قانون تنظيم منح التزام المرافق العامة لإنشاء وإدارة وتشغيل
وتطوير المنشآت الطبية في مصر والمعروف إعلاميا باسم "قانون تأجير
المستشفيات"؛ وفيه يحق للمستثمر طرد 75 بالمئة من العاملين بالمنشأة الطبية
من أطباء وتمريض وخدمات معاونة.
3 ـ مشروع قانون تنظيم المنشآت الطبية الخاصة: حيث أعلن مجلس الوزراء
بأنه قد وافق عليه لتقديمه إلى مجلس النواب لإقراره كالعادة؛ وفيه يتم وضع قيود
ورسوم كبيرة وشروط تعجيزية على من يرغب في إنشاء مؤسسة طبية.
4 ـ قانون
هيئة التدريب الإلزامي التابع للمجلس الصحي المصري وفيه تم فرض رسوم تسجيل مرتفعة
إلى جانب انتشار مراكز التدريب وضم مستشفيات كثيرة بدون توفير الكفاءات التدريبية
والإمكانيات التأهيلية للأطباء.
القوانين سيئة السمعة تربك جميع مقدمي الخدمة وسوف تؤدي إلى المزيد من
التدهور في مستوى الرعاية الصحية:
وعلى الرغم من الشكوى الرسمية المتكررة من ظاهرة استقالة الأطباء من
العمل الحكومي وزيادة معدل هجرة الأطباء للعمل بالخارج إلى درجة كارثية، حيث بلغت
نسبة 65 بالمئة من الأطباء المسجلين بالنقابة في بعض التقديرات، فإن تلك القوانين
سيئة السمعة سوف تؤدي إلى زيادة معدل هجرة الأطباء للخارج، إضافة إلى لجوء من بقي منهم إلى حيل مهنية متعددة منها الطب الدفاعي ويشمل إرهاق المريض بالمزيد من
الفحوصات الطبية، وتحويله من طبيب لآخر ومن مستشفى إلى مستشفى أخرى خاصة في
الحالة الحرجة، وهذا سوف ينعكس بدوره على الخدمة الصحية بصورة عامة.
وبالرغم من تعديل اسم القانون وتغيير مصطلح "حماية المرضى" ليصبح "سلامة المرضى"؛ وسط حفاوة بالغة من نقيب الأطباء ووزير
الصحة وأعضاء مجلس النواب؛ إلا أنه كان من المفروض أن يكون الاسم هو "قانون
المسؤولية الطبية وحقوق المرضى“ بحيث يكون متوافقا مع معايير الجودة الصحية،
ومطابقا لما ورد في "قسم الطبيب".