قضايا وآراء

الحزب الخفي.. كوابح السلطة وصراع المصالح في عهد ترامب

توفيق الحميدي
لم تعد واشنطن قادرة على فرض رؤيتها بالقوة وحدها، فقد تآكلت هيمنتها نتيجة التغيرات الهيكلية في الاقتصاد العالمي وصعود قوى جديدة قادرة على توجيه ضربات مؤلمة بوسائل غير تقليدية.. الأناضول
لم تعد واشنطن قادرة على فرض رؤيتها بالقوة وحدها، فقد تآكلت هيمنتها نتيجة التغيرات الهيكلية في الاقتصاد العالمي وصعود قوى جديدة قادرة على توجيه ضربات مؤلمة بوسائل غير تقليدية.. الأناضول
يبدو أن العاصفة السياسية التي أحدثها دونالد ترامب في بداية ولايته ليست إلا موجة مؤقتة في محيط من التوازنات العميقة التي تحكم السياسة الأمريكية. فبينما يستغل القادة الجدد لحظة الاندفاع الأولى لترسيخ نفوذهم، تبقى البيروقراطية أحد أهم العوامل التي تكبح جماح هذا الحماس المتفجر. إنها ليست مجرد جهاز إداري، بل منظومة متشابكة من المصالح والهياكل العتيقة التي تملك من النفوذ ما يكفي لاحتواء أي زعيم مهما بلغ طموحه أو جموحه.

البيروقراطية كخط الدفاع الأول

يحاول ترامب أن يستثمر حالة الإبهار الأولي قبل أن تتلاشى، سواء داخل الولايات المتحدة أو على المستوى الدولي. لكن سرعان ما تتحرك قوى غير مرئية، غالبًا ما تشكلها النخب الاقتصادية الفوق وطنية، لفرض توازن جديد عبر أدواتها المتغلغلة في مفاصل الدولة. هذا "الحزب الخفي"، المتمثل في تحالف المصالح الاقتصادية والسياسية العميقة، بتحريك أدواته النافذة لحماية مصالحه ف“توجيه السهام في كل اتجاه سيُتعب الرماة الجدد”،  فالمواجهة المفتوحة مع مراكز القوى المختلفة قد تؤدي إلى استنزاف الإدارة الجديدة بدلًا من تحقيق أهدافها.

لم تعد الهيمنة العسكرية التقليدية الوسيلة الوحيدة لترسيخ النفوذ، فالصين قدمت لترامب وإدارته الجديدة درسًا قاسيًا حول طبيعة السلطة في “عصر ما بعد الرقمية”. لم تعد المعارك تُحسم بالقوة العسكرية فقط، بل عبر الاقتصاد والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. فحادثة تطبيق “Deekseek”، التي تسببت بخسائر اقتصادية هائلة تقدر بالتريليونات، كانت رسالة واضحة بأن هناك أدوات جديدة يمكنها ضرب قلب الاقتصاد الأمريكي دون الحاجة إلى المدافع والطائرات.
وليست هذه الظاهرة جديدة في السياسة الأمريكية؛ فعندما تولى رونالد ريغان السلطة، بشّر بثورة  ريغان، لكنها سرعان ما تآكلت تحت وطأة المصالح المتجذرة التي أعادت التوازن لصالح القوى التقليدية. وبالمثل، يبدو أن إدارة ترامب ستواجه المصير ذاته، حيث يزداد تصاعد المواجهة بين حماسته الأولية والحقائق الصلبة التي تفرضها البيروقراطية وصراع المصالح.

ساحات القضاء والمعركة الكبرى

ما بدا كاضطراب سياسي بدأ يترجم إلى حراك قانوني واسع، حيث بدأ العديد من المتضررين من هذه القرارات التعبير عن رفضهم في الشوارع من خلال الإحتجاجات كموظفي وكالة التنمية الأمريكية ، وهذا الحراك بلا شك سوف ينتقل إلى المحاكم لتكون ساحات المحاكم واحدة من أقوى أدوات الكبح التي ستواجه ترامب وإدارته، كما حدث في قرارات ترامب بمنع دخول مواطني بعض الدول في ولا يته السابقة، وبينما تتحرك الشوارع الأمريكية ضد سياساته، تبدو المواجهة القانونية أشبه بحرب استنزاف طويلة الأمد، حيث ستستخدم المؤسسة القضائية لفرملة أي انحراف عن التقاليد السياسية الراسخة.

القوى التقليدية

يعد الصراع بين قوى السوق الصاعدة وأصحاب المصالح التقليديين أحد العوامل التي يمكن أن تفرمل قرارات ترامب، حتى عندما تبدو جريئة وحاسمة. يتجلى هذا الصراع في تعيين شخصيات مثل إيلون ماسك، الذي يمثل نموذجًا جديدًا للنخبة الاقتصادية الساعية لتجاوز الأطر التقليدية. لكن هذا التحول أثار قلق مراكز النفوذ الراسخة، التي رأت فيه تهديدًا للاستقرار القائم. ورغم أن ترامب دعم الرأسماليين الجدد، إلا أن النخب التقليدية—المتمثلة في اللوبيات، والمؤسسات المالية، والبيروقراطية العميقة—تمتلك أدوات ضغط هائلة، مثل الكونغرس والإعلام والقضاء، تمكنها من عرقلة أو تعديل سياساته بما يحفظ مصالحها. وهكذا، فإن التغيير في المشهد السياسي والاقتصادي الأمريكي ليس مجرد قرار فردي، بل معركة نفوذ تخضع لحسابات معقدة.

ما بعد القوة.. عصر التوازنات الجديدة

لم تعد الهيمنة العسكرية التقليدية الوسيلة الوحيدة لترسيخ النفوذ، فالصين قدمت لترامب وإدارته الجديدة درسًا قاسيًا حول طبيعة السلطة في “عصر ما بعد الرقمية”. لم تعد المعارك تُحسم بالقوة العسكرية فقط، بل عبر الاقتصاد والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. فحادثة تطبيق “Deekseek”، التي تسببت بخسائر اقتصادية هائلة تقدر بالتريليونات، كانت رسالة واضحة بأن هناك أدوات جديدة يمكنها ضرب قلب الاقتصاد الأمريكي دون الحاجة إلى المدافع والطائرات.

لقد دخل العالم عصرًا مختلفًا، حيث من يملك أدوات الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي هو من يمتلك زمام المبادرة، بغض النظر عن القوة العسكرية التقليدية. ترامب قد يكون عابرًا، لكن التغيرات التي كشف عنها ستظل قائمة، لتعيد تشكيل النظام العالمي وفق قواعد جديدة، ليس للبيت الأبيض وحده القدرة على صياغتها.
أما القضايا الدولية التقليدية، مثل فلسطين (غزة والضفة الغربية)، وخليج المكسيك، وبنما، وجرينلاند، فقد أصبحت مواجهات خارج منطق العصر. فترامب، الذي يفتقر إلى غطاء قانوني وأخلاقي في العديد من سياساته، يواجه عالماً بات أكثر وعيًا، حيث لم تعد الدعاية وحدها كافية لحشد التأييد الشعبي للقرارات المثيرة للجدل ، فإسرائيل فقدت صورتها التى  رسمتها منذ نشأتها في حرب غزة ، بسبب فاعلية وسائل التواصل الاجتماعي ، وقوتها وسلطتها الجديدة ، كم فقدت جزء كبير من قوتها العسكرية والإقتصادية ، فلم تعد القوة التقليدية والحرب نزهه ، دون مخاطر كبيرة ، خاصة في القوة المعنوية والقيمية ،ولذا يدرك الكثيرون من المحيطين بـ "ترامب " مخاطر ما برز به ترامب  في ايامة الاولي، أمام العالم. 

النظام العالمي أمام اختبار جديد

يبدو أن عهد ترامب يمثل مفترق طرق للولايات المتحدة والعالم بأسره. لم تعد واشنطن قادرة على فرض رؤيتها بالقوة وحدها، فقد تآكلت هيمنتها نتيجة التغيرات الهيكلية في الاقتصاد العالمي وصعود قوى جديدة قادرة على توجيه ضربات مؤلمة بوسائل غير تقليدية. في أفغانستان، وغزة، والعراق، أثبتت الشعوب أن الأدوات المتاحة اليوم لم تعد حكرًا على القوى العظمى، بل أصبحت في متناول الجميع.

لم تعد أمريكا قادرة على الاستمرار في القمة بالاعتماد على الشعارات القديمة حول الليبرالية والحداثة وحقوق الإنسان. لقد دخل العالم عصرًا مختلفًا، حيث من يملك أدوات الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي هو من يمتلك زمام المبادرة، بغض النظر عن القوة العسكرية التقليدية. ترامب قد يكون عابرًا، لكن التغيرات التي كشف عنها ستظل قائمة، لتعيد تشكيل النظام العالمي وفق قواعد جديدة، ليس للبيت الأبيض وحده القدرة على صياغتها.
التعليقات (0)

خبر عاجل