مقالات مختارة

الحلم الإمبراطوري

عمار يزلي
جيتي
جيتي
لم يسبق للعالم أن وصل إلى ذروة الفوضى كما يحصل اليوم، وهذا منذ نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي، التي انفجرت على إثرها الأزمة الاقتصادية العالمية في أمريكا، ثم انفجار الحرب العالمية الثانية في أوروبا.

الدواعي والمسبّبات، اليوم، هي نفسها بالأمس: توسّع الاستعمار وتمدّده، مع استدعاء حروب بريطانيا العظمى في العهد الفيكتوري والتجارة المركانتيلية والاكتشافات بالقوة في العالم، من أجل مستعمرات أكبر وموارد أقوى، في ظل تنامي الرأسمال التجاري، حتى قبل ظهور الرأسمال الصناعي والزراعي ثم الرأسمال المالي.

وصول الرأسمالية إلى ذروتها، كما كان يرى “ماركس”، من أن “الإمبريالية هي أعلى مراحل الرأسمالية”، نقلها من مرحلة “الاستعمار الجديد”، إلى العودة والتقهقر نحو “الاستعمار القديم – الجديد”. استعمار هجين، يستعمل فيه كل الأدوات من أجل غاية واحدة، هي توسيع نفوذه وفضاءات ربحه بلا حدود.

ما يحصل منذ بداية القرن الـ21 مع سقوط جدار برلين، من تغوّل جديد للغرب الرأسمالي بزعامة أمريكا، عبر آلية التوسّع شرقا وفي كل اتجاه، بحثا عن تقويض مصالح فضاءات سياسية أخرى منافسة ومنها الصين وروسيا، وهذا عبر آلية “الناتو”، مدعّمة بأدوات أخرى “ناعمة”، وأخرى “نائمة” في شكل “ثورات ملوّنة”، ثم ما يحصل اليوم، هي نتيجة حتمية لمآل انهيار المنظومة العالمية القديمة الموروثة عن مرحلة ما بعد 1945، وهي تشي بعواقب أقلّ ما يقال عنها إنها غير سلمية وفوضوية، من شأنها أن تزعزع بنية العالم برمته.
هيبتها ومكانتها وموقعها على الجغرافيا السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية، باتت على المحك.

الولايات المتحدة، المنتشية منذ نحو جيل من تربّعها على رأس العالم كقوة اقتصادية وعسكرية وسياسية ومالية مهيمنة، بلا منافس، تشعر اليوم أن هيبتها ومكانتها وموقعها على الجغرافيا السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية، باتت على المحك أمام تطوّر هائل في ديناميكيات اقتصادية جديدة في الصين بالأساس، مع نمو مضطرد لتكتلات اقتصادية جديدة، قد تسبّب لها صداعا اقتصاديا قد يقوّض قدراتها المالية وعملتها، تسعى الآن مع ترمب، إلى انتهاج سياسة الهجوم بدل الدفاع.

إعلان ترمب عبر مختلف حملاته الانتخابية قبل حتى عهدته الأولى، أنه “سيعيد لأمريكا عظمتها”، يؤكد أن تلك العظمة باتت على المحك، إلا أن مزاجه، وطبعه، كمرقّي عقاري تجاري و”لاعب شو” سابق في برامج استعراض القوة والعنف، تغلَّب على تطبّعه السياسي، مع دخول “المال إلى السياسة” من الباب المباشر، حوّل الآلة الرأسمالية في أمريكا إلى رأس حربة لاستعادة تاريخ “العهد الفيكتوري”، من أجل الهيمنة التجارية على كل البحار والمحيطات والأراضي السّاحلية للكرة الأرضية، وإذكاء عنصرية الإنسان “الأشقر”، تجاه الكل، حتى الأبيض، وتفوّق هذا العنصر على باقي الكائنات، لاسيما أولئك “أشباه البشر” في غزّة وأفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط بشكل خاص.

مرحلة الجنون السياسي غير المنضبط، من شأنها أن تلغي القانون الدولي والدخول في صراعات مع المؤسسات الدولية القائمة، وقد بدأت، فعلا، مع التمدّد الصهيوني في المنطقة، مدعوما بهذه القوة التي تريد أن تهيمن على منظومة عالمية، كانت هي من أنشأتها ونظّمتها وقنّنت مؤسساتها بعد “عصبة الأمم”: هي اليوم ترى فيها نهاية تاريخها، ونهاية عصر وجيل، ولا بد من فك الارتباط بها كمنظومة تشريع وضبط عالمية، أو الهيمنة على قرارها وتوجيهها بحسب أهوائها ومصالحها. إنها تعمل، حتى ضد حلفاء الأمس، في الغرب الأوروبي، وتدفعه إلى الاستقواء بها لا منافستها، رغم أن هذا لم يكن حاصلا من نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ كانت أوروبا مجرد “مشروع مارشال” في جيب  “مارشال”، وتريد اليوم أن تشتري بمال الغير أراضي لا يملكها من يريد بيعها.

الشروق الجزائرية
التعليقات (0)

خبر عاجل