“يتجه الناس شمالًا ليعودوا إلى منازلهم، يلقون نظرة على ما حلّ بها، ثم يستديرون ويغادرون… لا ماء، لا كهرباء.”
بهذه الكلمات الباردة، وصف ستيف ويتكوف، الملياردير العقاري ومبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط، ما يجري في
غزة. قالها وكأنه يتحدث عن مجرد خللٍ فنيّ في مشروعٍ عقاري، لا عن مدينة أبيدت عن بكرة أبيها، وطن يُراد محوه عن الخارطة، وشعب يُسحق تحت الركام.
لكن من يدقّق النظر يدرك أن الأمر ليس زلّة لسان، ولا سوء تعبير، بل هو لبّ المخطط، وجوهر الرؤية التي يتبناها ترامب ورفاقه. غزة لم يكن يخطط لها أن تُبنى من جديد، بل أن تُفرغ، أن تُسحق، وتغدو أثرا بعد عين.
ومن أفضل من أباطرة العقارات للإشراف على عملية المسح المنهجي هذه؟
بالنسبة لترامب وويتكوف، غزة ليست وطنًا، ولا أرضًا لها أهلها، ولا تاريخًا تمتد جذوره في عمق الزمن. غزة ليست إلا فرصة استثمارية، قطعة أرض متوسطية ثمينة، تسيل لعاب المستثمرين، ببحرها الفيروزي، وسمائها الصافية، و"طقسها المثالي"، كما علق ترامب وهو يفرك يديه طمعا.
ساذج من يحسب أن الولايات المتحدة أنفقت المليارات، وأرسلت خمسين ألف طن من القنابل لسحق 70% من مباني غزة، لتسمح بأن يعاد تشييدها ليعمرها أهلها الذين دفنت الآلاف منهم تحت الرماد. الدمار الممنهج لم يكن مقدمة لإعادة البناء، بل ضمانًا بألا يبقى شيء من أثر أهل البلاد. أن ينجو هؤلاء من قنابل واشنطن، ثم ويعودوا لبيوتهم المهدمة لم يكن جزء من المخطط.
ترامب قالها واضحة جلية: لا خيارات أخرى. سأله أحد الصحفيين فأجاب:
“الأردن ومصر قالا إنهما لن يستقبلا
الفلسطينيين من غزة كما اقترحت. وهل هناك وسيلة لإجبارهم على ذلك، كفرض الرسوم الجمركية مثلًا؟”
ابتسم ترامب، وقال بلكنته المتغطرسة المعهودة:
“سيفعلون. سيقومون بذلك. سيفعلون ذلك".
الأمر غير مطروح للتفاوض، أصلا. ليس اقتراحًا للنقاش. هو إعلان، وقرار للتنفيذ بلا جدال.
هذا هو منطق ترامب: القوة والإكراه والتسلط. كأن الدول قطع شطرنج يحركها كيفما شاء، وكأن الشعوب متاع ينقل ويلقى جانبا حيثما أراد.
المثير للسخرية هو أن ترامب بنى إرثه السياسي على محاربة الهجرة وإغلاق الحدود وإقامة الجدران العازلة، وحظر اللاجئين، معتبرا المهاجرين خطرا داهما يتوجب صده بكل السبل. لكنه حين يتعلق الأمر بالفلسطينيين، يغدو مهندسًا للتهجير القسري، ومصممًا لمشاريع “إعادة التوطين”!
هذا ليس نفاقًا سياسيًا فحسب، بل انقلاب كامل حتى على كذبة “صفقة القرن”. فخطته، رغم تحيزها الفاضح لإسرائيل، كانت تتخفى وراء قناع الاعتراف بدولة فلسطينية مستقبلية، وإن كانت مشوهة وضعيفة وبلا سيادة، تحت رحمة إسرائيل في كل شؤونها.
لكن حتى هذه الخدعة الهزيلة لم يطق ترامب عليها صبرا.
لم يعد ثمة متسع حتى للوهم والمسرحيات. المخطط الجديد واضح وضوح الشمس: لا دولة، لا كيان سياسي، لا حتى ورقة توت توارى بها السوءات. ما تبقى رؤية نتنياهو وسموتريتش، حيث يوضع الفلسطيني أمام خيارين لا ثالث لهما: اما أن يُسحق تحت القصف، أو أن يُدفع إلى المنافي، بلا عودة وبلا وطن.
في يناير 2024، اجتمع وزراء الحكومة الإسرائيلية في مؤتمر يميني متطرف، وتحدثوا بصراحة عن غزة."، التي لم تحضر عندهم كمكان لإعادة الإعمار، ولا حتى كموقع يتوجب احتلاله وإدارته، ولكن كرقعة يجب أن تُمحى تمامًا. لم يكن النقاش عن فرض سيطرة، بل عن الطرد والإزالة والإخلاء الشامل. استند المشاركون إلى ما هو أعمق من السياسة، إلى ما هو أكثر خطورة من التخطيط العسكري. فتحوا كتبهم المقدسة، واستلهموا أوامرهم من سفر العدد:
“وإن لم تطردوا سكان الأرض من أمامكم، يكون الذين تستبقون منهم أشواكًا في أعينكم، ومناخس في جوانبكم، ويضايقونكم في الأرض التي تقيمون فيها.” (33:55)
هي إذن حرب مقدسة بأدوات حديثة، وتكنولوجيا أمريكية، وصمت عالمي.
في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، لم تكن حكومات إسرائيل اليسارية أقل التزامًا بمشروع
تهجير الفلسطينيين من غزة مما تفعله اليوم حكومة اليمين المتطرف. بل إن مراجعة محاضر اجتماعات مجلس الوزراء الإسرائيلي في تلك الحقبة تكشف أن الأفكار التي تم تداولها آنذاك لا تختلف كثيرًا عن خطط التهجير القسري التي يتحدث عنها بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير اليوم تحت ستار “الهجرة الطوعية”.
في يونيو 1967، بعد احتلال غزة، ناقش رئيس الوزراء الإسرائيلي ليفي أشكول مع وزرائه كيفية “إفراغ غزة أولًا”. لم يكن يتحدث وقتها عن إدارة
الاحتلال، ولا عن حكم السكان، بل عن التخلص منهم نهائيًا. لم تكن الفكرة هي احتواء الفلسطينيين أو استيعابهم، بل دفعهم إلى الرحيل بأي وسيلة ممكنة.
قال أشكول في إحدى الجلسات المسجلة:
“يجب أن يتم ذلك بهدوء، وبطريقة غير مباشرة، حتى لا نجذب انتباه العالم.”
أما وزير دفاعه آنذاك، موشيه ديان، فكان أكثر صراحة، إذ صرح بلا مواربة: "يجب أن يبقى في غزة فقط ربع سكانها، والبقية ينبغي أن يُزالوا بأي طريقة ممكنة".
لم يكن ديان يتحدث عن تنظيم حياة السكان، بل عن استئصالهم، عن تقليص أعدادهم إلى الحد الأدنى وعن ترحيل الأغلبية الساحقة بأي وسيلة كانت.
في نفس الجلسات، اقترح وزير المالية يوسف سابير حلًا أكثر تطرفًا:
“علينا أن نمسك بهم من رقابهم ونرميهم إلى الضفة الشرقية (الأردن). لا أدري من سيقبل بهم هناك، خاصة اللاجئين من غزة.”
أما يغال ألون، أحد كبار الشخصيات السياسية في ذلك الوقت، فكان يرى أن الحل الأمثل يكمن في سيناء: “يمكننا توطين جميع لاجئي غزة هناك، فالمساحة في سيناء تكفي لهم، ويجب أن نبدأ فورًا".
ليفي أشكول كان أكثر براغماتية في طرحه، إذ اقترح استراتيجية تعتمد على حرمان السكان من الموارد الأساسية لدفعهم إلى الرحيل طواعية. قال في أحد الاجتماعات:
“ربما إذا لم نوفر لهم ما يكفي من الماء، فلن يكون لديهم خيار، لأن بساتينهم ستصفرّ وتذبل”.
لا يُطرح التهجير على أنه سياسة رسمية، بل يُغلف بعبارات مضللة من قبيل “تشجيع الهجرة الطوعية”، أو “خلق فرص معيشية جديدة للفلسطينيين في أماكن أخرى”.
تتغير الوجوه والقوالب ويبقى الجوهر نفسه. حين يعلن بن غفير عن تشكيل “لجنة حكومية خاصة لتشجيع الهجرة الطوعية”, كل ما يقوم به هو تكرار أطروحات ليفي أشكول قبل ستين عامًا، حين تبنى فكرة الضغط على الغزيين وإجبارهم على المغادرة، من دون أن يبدو الأمر على أنه طرد علني.
لم يتبدل شيء في العقيدة الصهيونية تجاه الفلسطينيين، سواء كانت الحكومات التي تتبناها يسارية أم يمينية. الفرق الوحيد أن من كانوا بالأمس يخططون للهجرة القسرية في الغرف المغلقة، باتوا اليوم يعلنونها على الملأ، بلا تردد، ولا قلق من تبعاتها السياسية أو الأخلاقية.
الغزيون لم يرحلوا.
واليوم، رغم القصف والتجويع والدمار، يسيرون شمالًا، يقطعون محور نتساريم الذي اصطنعه الاحتلال، ليمضوا حيث أريد لهم أن يمحوا. يمشون صوب أرض ظن العدو أنه اقتلعهم منها وطمس أثرهم الى غير رجعة.
لكنهم يعودون، لأنهم يدركون أن التاريخ لا يُكتب بقنابل الطائرات، ولا يُمحى بقرارات الطغاة.
قالها أحد العائدين، نعمان، واقفا أمام حطام منزله:
“كما أنني أنتمي إلى وطني، فإن وطني ينتمي إلي. لم أرد أن أتيه لحظة أخرى بعيدًا عن بيتي”.
ما لم ينجح في الستينيات، لن ينجح اليوم. ما فشل أشكيول في تحقيقه في الستينيات وتعداد سكان غزة 400 ألف لن يفلح فيه ترامب اليوم وهم 2.5 مليون.
موشيه ديان، وزير دفاع أشكيول، كان يقول متحسرا: "أنا أحكم غزة في النهار، لكن زياد الحسيني يحكمها ليلا".
زياد الحسيني كان قائد قوات التحرير الشعبية في غزة، بُعيد الاحتلال العسكري للقطاع. إثر نكسة 1967، جمع وثلة من رفاقه ما تركه الجيش المصري من أسلحة، وشكل خلايا سرية للعمل الفدائي ودربها على خوض غمار حرب العصابات، تحت اسم «قوات التحرير الشعبية». دوّخت هذه المجموعات الاحتلال ونجحت في شن أزيد من 56 عملية نوعية جريئة ضده. ولإجبار زياد على تسليم نفسه، اعتقل دايان والدته سعاد، عذبها بوحشية واقتلع إحدى عينيها. ويوم 21 نوفمبر 1971، استُشهد زياد ولم يتجاوز ال32 ربيعا. احتفى قادة جيش الاحتلال منتشين، ظنا منهم أن المقاومة انتهت وقُبرت مع رفاته.. لكنها لم تمت، بل ازدادت ضراوة ووهجا وتصميما.
كتب محمود درويش حينها:
“غزة لم تعد مدينة، بل ساحة معركة تُختبر فيها انتصارات العدو، وأحلامه، وقيمه. الحقائق الوهمية التي يحاول خلقها، وهو يعتقد أن الزمن في صالحه، ستسخر منه، كما سخرت من الغزاة الذين سبقوه، حين هُزموا في أزقة غزة على أيدي أبنائها وبناتها”.
ليرددها ترامب مرة واثنتين وثلاثا وألفا:
“خذوا سكان غزة، خذوهم، خذوهم"
الغزيون أجابوه سلفا من بين ركام بيوتهم، على تراب روته دماء آبائهم وأمهاتهم وفلذات أكبادهم:
نحن باقون هاهنا، لن تترك أرضنا، لن نرحل