سلطت صحيفة "
فايننشال تايمز" الضوء
على التطورات الأخيرة في سباق
الذكاء الاصطناعي بين الولايات المتحدة والصين، مستعرضة
نموذج الذكاء الاصطناعي الذي أطلقته شركة ديبسيك
الصينية، والذي أحدث ضجة في
السوق ورفع التساؤلات حول تقدم الصين في هذا المجال.
وقالت الصحيفة، في هذا التقرير الذي ترجمته
"عربي21"، إن العالم شاهد يوم الاثنين الماضي كيف تم محو تريليون دولار
من سوق الأسهم في يوم واحد، وهو حريق هائل أشعلته شركة الذكاء الاصطناعي الصينية
الناشئة غير المعروفة "ديبسيك".
وقد أدى إطلاقها لنموذج ذكاء اصطناعي جديد،
يُعرف باسم "آر1"، إلى قلب الافتراضات حول تفوق الولايات المتحدة في
مجال الذكاء الاصطناعي وأثار احتمال تغلب الصين على وادي السيليكون في لعبته
الخاصة.
ويستطيع هذا النموذج "التفكير" في حل
المشاكل العلمية المعقدة ويضاهي في أدائه
البرمجيات الرائدة من عمالقة التكنولوجيا
الأمريكية، لكنه تم تطويره بسعر أقل من سعر تلك النماذج.
وسرعان ما أزاح تطبيق "شات جي بي تي"
باعتباره التطبيق المجاني الأكثر تحميلا على متجر تطبيقات "آي أو إس" في
الولايات المتحدة.
اظهار أخبار متعلقة
وأشارت الصحيفة إلى أن نجاح "ديب
سيك" له آثار مزدوجة على صناعة التكنولوجيا؛ أولا، من المرجح أن يؤدي ذلك إلى
تسريع التطوير التجاري للذكاء الاصطناعي واستيعابه، مثلما فعل تطبيق "شات جي
بي تي" في سنة 2022.
وفي الوقت نفسه؛ يهدد التطبيق الصيني بهدم
الافتراضات الاستثمارية التي قامت عليها سوق الأسهم الأمريكية بأكملها، وذلك من
خلال إظهار أن تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة لا يتطلب كميات هائلة من
البنية التحتية وبالتالي رأس المال.
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: هل لحقت الصين
بركب الذكاء الاصطناعي في اللحظة التي يدعي فيها العاملون في هذا المجال أنهم على
شفا طفرة تاريخية ستضع الآلات على قدم المساواة مع الذكاء البشري، وهي العتبة
المعروفة باسم الذكاء الاصطناعي العام؟
وبحسب إريك شميدت، الرئيس التنفيذي السابق
ورئيس مجلس إدارة غوغل، فإن ابتكارات "ديب سيك" تؤكد أن الصين والولايات
المتحدة متقاربتان في هذا المجال وأن التفوق الأمريكي غير مضمون.
وأوضحت الصحيفة أن شركة "ديبسيك"
تأسست على مستويات من الطموح تماثل وادي السيليكون؛ فقد بدأت في سنة 2023 كمشروع
جانبي للملياردير غريب الأطوار ليانغ وينفينغ، في الوقت الذي كان فيه السباق على
استنساخ "شات جي بي تي" يحتدم، وتحولت منذ ذلك الحين إلى أحد مختبرات
الذكاء الاصطناعي الرائدة في الصين.
وقال ليانغ في مقابلة له السنة الماضية:
"لماذا يعد وادي سيليكون مبتكرا للغاية؟ لأنهم يجرؤون على فعل الأشياء،
فعندما ظهر شات جي بي تي، كان مجتمع التكنولوجيا في الصين يفتقر إلى الثقة في
الابتكار".
وأضاف: "من المستثمرين إلى التكنولوجيا
الصينية الكبيرة، اعتقدوا جميعا أن الفجوة كبيرة جدا واختاروا التركيز على
التطبيقات بدلا من ذلك. ولكن الابتكار يبدأ بالثقة".
وأفادت الصحيفة بأنه مع اضطلاع الصناديق
المملوكة للدولة في الصين بدور أكبر في تمويل الشركات الناشئة في السنوات القليلة
الماضية، فقد شعرت بيئة ريادة الأعمال بالضغط لضمان العوائد خوفا من خسارة أصول البلاد.
وتتميز شركة "ديبسيك" بين الشركات
الصينية الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي بأنها لم تجمع أي تمويل خارجي، وبالتالي تحررت من هذه القيود.
وباعتبارها مختبرا بحثيا خالصا، فقد ركزت
"ديبسيك" كل جهودها على دفع مجال الذكاء الاصطناعي إلى الأمام، بدلا من
محاولة كسب المال.
ووفقا لأحد المستثمرين في مجال الذكاء
الاصطناعي في الصين، فإنها فريدة من نوعها بين شركات الذكاء الاصطناعي الصينية؛
حيث لا توجد سياسات أو احتكاكات إدارية كما هو الحال في شركات التكنولوجيا الكبرى
الأخرى أو الشركات الناشئة الأكبر حجما.
وأضافت الصحيفة أن نشأة شركة "ديبسيك" كصندوق تحوط كمي يعني أنها تمتلك مواهب هندسية تتمتع بفهم عميق للرقائق،
ويظهر إنجازها في نجاحها الواضح في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة دون
إنفاق مئات الملايين من الدولارات التي أنفقها منافسوها الأمريكيون.
وربما تكون قد اختصرت الطريق لتوفير التكاليف؛
حيث تدعي "أوبن إيه آي" أن لديها أدلة على أن "ديبسيك" تدرب
على مخرجات نماذج "أوبن إيه آي" الخاصة، وهو أمر غير مسموح به بموجب
شروط الاستخدام الخاصة بها، على الرغم من أنه يُعتقد أن هذه الممارسة غير المشروعة
تستخدم على نطاق واسع من قبل الشركات الأمريكية أيضا.
ومن المفارقات أن محاولة واشنطن إعاقة قطاع
الذكاء الاصطناعي في الصين من خلال فرض ضوابط على تصدير الرقائق الأمريكية
المتطورة اعتبارا من عام 2022 فصاعدا، ربما تكون قد ساهمت في تحقيق نجاح "ديبسيك".
وقد اضطرت الشركة إلى إيجاد طرق مبتكرة
لاستخراج أداء أعلى من الرقائق الأقل تطورا التي تمكنت من شرائها.
وأشارت الصحيفة إلى أن ادعاءات الشركة بشأن
التكلفة المنخفضة والقدرات المتقدمة لنماذجها أثارت جدلا ساخنا حول مدى تأثيرها
المزعزع للاستقرار؛ حيث أشاد قادة وادي السيليكون بابتكاراتها، مع التقليل من
أهميتها في الوقت نفسه.
ووصف سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة
"أوبن إيه آي"، نموذج "آر1" بأنه "مثير للإعجاب"،
بينما أشاد مارك زوكربيرج، الرئيس التنفيذي لشركة "ميتا"، بالشركة التي
حققت "تطورات نأمل أن نطبقها في أنظمتنا".
ومع ذلك فقد وصف زوكربيرج الإنجاز الذي حققته
شركة "ديبسيك" أيضا بأنه مجرد إنجاز من بين العديد من الإنجازات في
مجال يتحرك بسرعة فائقة، مما يجعل من الصعب معرفة مدى عمق النهج المنخفض التكلفة
الذي تتبعه الشركة في تغيير ديناميكيات هذه الصناعة.
اظهار أخبار متعلقة
ووفقا لبعض مراقبي التكنولوجيا في الصين، فإن
التقدم الذي حققته شركة "ديبسيك" ليس مهما بما يكفي لتغيير حقيقة أن
شركات الذكاء الاصطناعي في البلاد كانت تكرس نفسها إلى حد كبير لمحاكاة نظيراتها
الأمريكية بدلا من تحديد اتجاه لنفسها.
ويقول آخرون إن حقيقة أن شركة تكنولوجيا ناشئة
صينية هي التي تقف وراء آخر تقدم مثير للانتباه تمثل لحظة فارقة، وتغيّر
الديناميكية في سباق الذكاء الاصطناعي بين البلدين.
وكتبت تيلي زانغ، محللة تكنولوجيا الصين في
شركة "غافيكال دراغونوميكس" المتخصصة في أبحاث الصين، في ملاحظة نُشرت هذا
الأسبوع: "قد لا تعني النماذج الأخيرة لشركة ديبسيك أن الصين تتقدم على
الولايات المتحدة في سباق الذكاء الاصطناعي، ولكنها تُظهر أن الشركات الصينية تحقق
تقدما ملحوظا في ابتكار البرمجيات الذي يخفف من القيود التي تفرضها ضوابط التصدير
الأمريكية".
وأضافت: "سباق القيادة في مجال الذكاء
الاصطناعي لم يعد يتعلق بمن لديه أفضل الرقاقات، بل بمن يستطيع استخدامها على أفضل
وجه".
وبينت الصحيفة أنه رغم جدل أهمية اختراقات ديب
سيك التقنية، إلا أنه لا يمكن إنكار الصدمة التي اجتاحت سوق الأسهم مع استيعاب
المستثمرين لتداعيات ابتكارها الرئيسي، وهي تقليص تكلفة تدريب أحدث نماذج الذكاء
الاصطناعي بشكل كبير.
وأضافت الصحيفة أن نماذج "ديبسيك"
تبدو أنها تقوض الحجة التي رددتها الشركات الأمريكية في مجال الذكاء الاصطناعي على
مدار السنة الماضية؛ حيث إن التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي يتطلب كميات ضخمة من
رأس المال والبنية التحتية لتطوير ونشر تقنياتها على نطاق واسع.
بدلا من ذلك، تشير التقنية الصينية إلى أن
النماذج الأمريكية الأكثر تكلفة لن تكون لديها اختلافات كبيرة، مما يثير مخاوف
المستثمرين من حدوث صدمة انكماشية حادة.
وأفادت الصحيفة أن الكثيرين في وادي السيليكون
يميلون إلى الحجة بأن الآخرين سيتبنون ابتكارات "ديبسيك"، ما سيخفض
تكلفة تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي. وادعى مديرون مثل ساتيا ناديلا من مايكروسوفت
أن ذلك سيجعل التكنولوجيا أكثر قدرة على تحمّل التكلفة ويزيد من استخدامها، مما
يعود بالنفع على الصناعة.
في إشارة على ثقة الشركة في مكانتها، نشرت
"ديبسيك" أبحاثها وأصدرت نماذجها بصيغة "الأوزان المفتوحة"،
وهي نسخة أكثر محدودية من البرمجيات مفتوحة المصدر تسمح لأي شخص بتحميل واستخدام
وتعديل التكنولوجيا.
وقالت الصحيفة إن هذا التحرك سيجذب متابعة
واسعة من المطورين حول العالم الذين يبحثون عن نماذج "مفتوحة" لبناء
التطبيقات عليها. ورغم أن معظم النماذج التي تطورها الشركات الرائدة في وادي
السيليكون تظل مغلقة، إلا أن هناك استثناءات، أبرزها شركة ميتا، التي شهدت نماذجها
المفتوحة زيادة كبيرة في الشعبية.
وأضافت أن نموذج "ديبسيك" متاح
بتكلفة أقل بكثير، حيث تتقاضى 1.4 سنت لكل مليون رمز، ما يعادل حوالي 700,000
كلمة، بينما تتقاضى "ميتا" 2.80 دولار لنفس المخرجات من أكبر نماذجها.
وبعيدا عن تأثير "ديبسيك" على سوق
منتجات الذكاء الاصطناعي، يعد اختراقها أيضا بأن يكون له تداعيات جيوسياسية، إذ
يأتي في لحظة حاسمة يعتقد الكثيرون أنها تشكل نقطة تحول في المنافسة بين الولايات
المتحدة والصين على الهيمنة في مجال الذكاء الاصطناعي.
ونقلت الصحيفة عن كريغ موندي، المدير التنفيذي
السابق في مايكروسوفت والمستشار السابق في البيت الأبيض، والذي يقدم المشورة لسام
آلتمان من "أوبن إيه آي" بشأن سياسة واستراتيجية التكنولوجيا، قوله:
"لقد سرّعت "ديبسيك" من الحاجة الملحة لجميع البلدان لتقييم...
توازن القوى التكنولوجي الناشئ بين الدول المختلفة".
وحذر داريو أمودي، الرئيس التنفيذي لشركة
"أنثروبيك" الأمريكية الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي، من أن تمكن
الصين من الوصول إلى مستوى متساو مع الولايات المتحدة في مجال الذكاء الاصطناعي
سيكون له تداعيات على كل ما قد تُستخدم له هذه التكنولوجيا في المستقبل.
وأشار موندي، الذي يرأس أيضا المنتدى
الدبلوماسي للحوار بين الولايات المتحدة والصين بشأن الذكاء الاصطناعي الذي أنشأه
وزير الخارجية الأمريكي الراحل هنري كيسنجر، إلى أن الذكاء الاصطناعي كان
"التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج في نهاية المطاف"، ما يعني أنه له أغراض
إيجابية وخطيرة.
وذكرت الصحيفة أنه من المرجح أن يطغى ظهور
"ديبسيك" على المناقشات عندما يجتمع المنتدى الدبلوماسي في غضون 90 يوما
لمناقشة هيكل أمني متعدد الأطراف ولكنه مشترك لبرمجيات الذكاء الاصطناعي، وهو
الموضوع الذي يتناوله موندي في كتابه الأخير جينيسيس، الذي شارك في تأليفه مع
كيسنجر وشميت.
واختتمت الصحيفة تقريرها موضحة أن رواد الأعمال
الشباب الطموحين في الصين يتطلعون إلى "ديبسيك" ومؤسسها كمصدر إلهام
لبناء جيل جديد من التكنولوجيا القوية.