أربعة عشر عاما
مرت على أعظم
ثورة عرفها التاريخ
المصري، وربما العربي، ومن أعظم الفعل البشري في
العصر الحديث، ومنطلق ذلك هي تلك الروح التي سادت على مدى ثمانية عشر يوما هي أيام
الثورة حتى سقوط الطاغية. من اعتصم في ميدان التحرير يعرف جيدا هذه المشاعر، التي
لا تستطيع أن تصفها كلمات إلا بالقول؛ إن ملائكة كانت تتقاسم الرصيف قبل الرغيف،
تلاشت الفوارق الطبقية والعلمية والاجتماعية، وكل مظاهر الخداع الذي به يحكم
الطغاة الشعوب بزرع الفرقة والكبر في قلوبهم، ولو كان في المقال مساحة لوضعت صورا
التقطتها عدسة كاميرتي ليتخيل من لم يعش هذه الأيام كيف كانت.
تمر علينا ذكرى
25 يناير هذا العام بشكل مختلف، فما حدث في
سوريا جدد الأمل، وهز أركان الطغاة
وأربعة أعضاء نادي الثورات المضادة، لكن ولأنهم يمتلكون من الإمكانيات المادية
والبشرية والمالية والمعلوماتية، ويخدم عندهم من باع ضميره ودينه، وباع شعبه من
أجل المال، يهدّئون من روعهم، ويعمل في ذلك الزبانية والمتآمرون، فبقاء هؤلاء يعني
بقاءهم، ومن ثم الحفاظ على هدوئهم واجب وقت يعملون على إصابته، لكي يدبروا لما هو
آت في سوريا، حتى لا تصبح سوريا مثالا يحتذى ودليلا يتبع.
أهملت الثورات الحالة الاقتصادية وما تعنيه للمواطن في حياته اليومية، وأخيرا ابتعدت الحركات الثورية عن المناقشات النقدية المتعلقة بقطاع الأمن، وبالنتيجة ترك الفشل في المشاركة الفعالة والجماعية في هذه المجالات إرثا من الفرص الضائعة، التي لا تزال محسوسة بشدة حتى يومنا هذا.
قبل شهرين من
اليوم لو كنت كاتبا هذا المقال، أنا أو غيري، لكان الكلام غير الكلام، لعلي كنت
سأكتب لأبث الأمل الباهت في قلوب الثوار المنهكين المهزومة أنفاسهم قبل نفوسهم، من
فِعل من يقودون مشهد الحراك الثوري، أو قل المعارض في المهاجر، هزيمة فعلناها
بأنفسنا قبل أن يصيبنا بها الدكتاتور، فنحن من قبلنا تبريد الثورة، ونحن من رضينا
بتقليل سقف المطالب، ونحن من ألقينا بأوراق الضغط، ونحن أيضا من جعلنا أنفسنا
مشروع الغير، بعد أن فقدنا الرؤية وفقدنا المشروع. ولعلي أيضا كنت، كما أي كاتب عن
ذكرى يناير، استرجعت المواقف لأنفث بعض الأمل في الأرواح المثقلة بمتاعب لقمة
العيش في المنافي، ولأجعل من هذه الذكريات أمثلة لمن لم يشهدها، مع التنبيه عليه
ألا يقع فيما وقعنا فيه.
منذ أشهر، نظم
"تشاثام هاوس" أو المعهد الملكي للشؤون الدولية، وهو أحد أعرق المعاهد
المختصة في بريطانيا، ويصف نفسه بأنه مؤسسة محايدة تعمل على تحليل الأحداث الدولية
الجارية، مما قد يساهم في تعميق فهم العالم لما يجري من أحداث وتطورات؛ سلسلة من
الحوارات. ضمت هذه المناقشات عشرات الناشطين من البلدان التي عاشت ربيعنا العربي،
وانتهت هذه الحوارات والجلسات بحسب المعهد، إلى أن الحركات الثورية فشلت في أن
تترجم حالتها الثورية إلى نمط سياسي تحكم به البلاد. فقد أهملت الثورات الحالة
الاقتصادية وما تعنيه للمواطن في حياته اليومية، وأخيرا ابتعدت الحركات الثورية عن
المناقشات النقدية المتعلقة بقطاع الأمن، وبالنتيجة ترك الفشل في المشاركة الفعالة
والجماعية في هذه المجالات إرثا من الفرص الضائعة، التي لا تزال محسوسة بشدة حتى
يومنا هذا.
في الثامن من كانون
الأول/ ديسمبر الماضي تحررت دمشق، وهرب الدكتاتور وانتصرت الثورة التي ناضلت على مدار
أربعة عشر عاما. ولعل الثورة السورية كما كتبت سابقا، وكما كنت دوما أقول للأصدقاء
في الائتلاف وفي غيره من قادة العمل السياسي السوري، أنها ستكون أنضج ثورة؛ لأنها
جربت كل شيء تعرفه قواميس النضال البشري من أجل الحرية، جربت الثورة السلمية،
والثورة المسلحة، وخبرت المفاوضات واحتكت بالعالم وفهمت ألاعيبه، رغم الأداء
الباهت، وعرفت المكايد وشراء الذمم، وفطنت لطرق استمالة المناصرين واستخدامهم داخل
صفوف الثوار لتنفيذ أجندات، وجربت الحكم المحلي، وأنشأت وأدارت مؤسسات الدولة على
نطاق صغير في إدلب، وعرفت أهمية المعلومات والمخابرات، لذا فإن نضج هذه الثورة
سيمكنها من أن تحكم بعون الله.
ذكرى 25 يناير هذا العام تحل بنسائم تحرير سوريا في الثامن من الأول/ ديسمبر، تحل وقد تباينت الآراء، فمنهم من يرى أن سلميتنا هي من نكستنا، ومنهم من يرى أن الحالة المصرية لا تتحمل ما تحملته سوريا ودفعت من أجله الثمن، وبين ذلك وتلك، تبقى الحالة الثورية هي بنت بيئتها، وبنت ظروفها وبنت من يقودها.
نضج الثورة
السورية وانتصارها له تأثيران مهمان، الأول على أعداء هذه الثورة، وهم بالمناسبة
كثر، ولا يغرنك توافد الوفود تترى على دمشق، ولا يغرنك إذعان المكونات والأقليات،
والثاني هو تأثير في المحيط فيما لو جرت سنة الله في نظرية الأواني المستطرقة.
فعلى الرغم من أن الثورة يجب أن تكون صلبة، إلا أن عدواها يجب أن تكون مائعة لتملأ
كل الأواني من حولها، من دون خطاب الانكفاء المتبنى الآن، فقد أثبتت الأيام أن
ثورنا الأبيض يؤكل كلما انكفأنا، فهذه الثورة يجب أن تكون شاملة وعارمة وليست
عربية، بل إسلامية تهب في كل الأقطار، بوعي أن الوكيل هش. المواجهة يجب أن تكون مع
الأصيل، مع الوضع في الاعتبار أن المحتل القديم طالما ساند وكلاءه للحفاظ على
مصالحه، أما وإن هبت الأمة كلها، فإنه لا وكيل ولا أصيل يستطيع أن يصمد أمام مليار
ونصف المليار.
هذه الثورة
المأمولة، يجب أن تسبقها استراتيجية كبرى وخطط إقليمية، الأولى تعي تبعات هذه
الثورة وما سيترتب عليها من وجوب تعاون إسلامي في المجالات كلها، وعلى رأسها
الاقتصاد والأمن والتعليم، والثانية تقدر احتياجات وقدرات كل إقليم في قراءة واعية
لتخدم الاستراتيجية، ما عدا ذلك فإن مباراة الثورة السورية القادمة ستكون خارج
أراضيها ودون جماهيرها، وهو حال أي ثورة اتخذت من نفسها حالة خاصة، وانكفأت وغلقت
الأبواب على نفسها، فإن نادي الثورات المضادة فائز لا محالة، وذلك لفرق الإمكانيات
والقدرات والدعم المستمر من الإمبريالية الغربية والعالمية، فالذئب يأكل من الشاة
القاصية.
ذكرى 25 يناير
هذا العام تحل بنسائم تحرير سوريا في الثامن من الأول/ ديسمبر، تحل وقد تباينت
الآراء، فمنهم من يرى أن سلميتنا هي من نكستنا، ومنهم من يرى أن الحالة المصرية لا
تتحمل ما تحملته سوريا ودفعت من أجله الثمن، وبين ذلك وتلك، تبقى الحالة الثورية
هي بنت بيئتها، وبنت ظروفها وبنت من يقودها، نسائم ديسمبر هبت فهل أُذِن لربيع
العرب أن يزهر؟!