مقالات مختارة

ماذا يعني وقف إطلاق النار في غزّة؟

سعيد الشهابي
جيتي
جيتي
شعر الكثيرون بارتياح نسبي لوقف إطلاق النار في غزّة، بعد أن قتل الإسرائيليون ما يقرب من 50 ألفا من سكانها خلال 471 يوما من القصف المركز، في غياب دعوات جادّة لوقف العدوان.

والسؤال هنا: هل ستستمر الهدنة طويلا أم إن الاحتلال سيواصل سياساته العدوانية مجدّدا؟ وتكفي الإشارة إلى أن أكثر من 80 من الفلسطينيين قتلوا بعد إعلان «إسرائيل» موافقتها على وقف إطلاق النار. هذه الأرقام لم تعد ذات معنى؛ لأنها أصبحت تتكرر يوميا دون أن تدفع هذا العالم لمواقف وسياسات توقف العدوان.

ويقلّل من شأن هذه الأرقام، تحوّل مناطق واسعة من غزة إلى أكوام من الحطام لم يرها العالم منذ الحرب العالمية الثانية، حيث تُسوّى الأحياء السكنية بالأرض دون رحمة. ومن يشاهد التقارير الإعلامية على شاشات التلفزيون، يراها واضحة ليس من خلال الصور فحسب، بل من الكلمات التي تنطلق من حناجر الإعلاميين الدوليين الذين يقومون بالتغطية، فهذه المشاهد ليس لها وصف دقيق أو أهمية، بعد أن تكرّرت كثيرا وأصبحت روتينا ربما يراه البعض مملّا.

وليس العالم الأجنبي وحده هو الذي وقع في حالة اللامبالاة، وأقفل عينيه وغضّ بصره وأغلق قلبه عن المجازر التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي يوميا في غزّة، بل إن الشعوب العربية والإسلامية أصيبت بداء تكلّس القلوب والمشاعر، ولم تعد تلك المشاهد تثير فيها أحاسيس الأذى والغضب؛ فقد يكون مفهوما أن يكون هناك حزم في الحرب، ولكن استهداف المناطق السكنيّة على نطاق واسع، وتدمير البنى التحتية بما فيها مصادر الطاقة والماء والملاجئ والمدارس والمستشفيات، يمثل جرائم حرب خطيرة يجب التصدّي لها.

برغم وقف إطلاق النار، هناك توجس قلق لدى الكثيرين، خصوصا مع ترقّب التنصيب الرسمي للرئاسة الأمريكية هذه الأيام؛ فالمعروف أن دونالد ترامب لا يمكن تصنيفه ضمن البشر ذوي القلوب الإنسانية ومشاعر الرحمة والرأفة، بل إنه أكثر جنوحا للعنف من جهة وأشد ميلا للصهاينة من جهة ثانية. وهل هناك من دليل على نزعته العنيفة أقوى من موقفه في مثل هذه الأيام قبل أربعة أعوام، عندما رفض نتائج الانتخابات الرئاسية آنذاك، ودفع أتباعه لاقتحام مبنى الكونغرس، متسبّبا في مقتل خمسة أشخاص لم يرتكبوا جرما؟

الرئيس ترامب محسوب على مجموعات سياسية إنجيلية تدعم الممارسات الإسرائيلية أيا كان شكلها. كما أنه يشعر بالقرب من نتنياهو الذي تناغم معه خلال مفاوضات وقف إطلاق النار، ويريد ترامب مكافأته على ذلك. أما العامل الثالث، فيرتبط بالسيد مايك وولتز، الذي عيّنه ترامب مستشارا بمجلس الأمن القومي. هذا الشخص معروف بتحسسه من حلف الناتو وعضوية أمريكا فيه، ويدعو لوقف أي دعم للمجموعات المقاتلة في أوكرانيا، وهو منحاز بشكل كبير للكيان الإسرائيلي.

وهكذا يبدو المشهد الأمريكي عاملا مهما لاستشراف ما يمكن أن تؤول إليه القضية الفسطينية في المستقبل المنظور. وقبل الحرب الحالية كان نتنياهو قد أعلن سياسة راديكالية مفادها أنه يريد القضاء على مجموعات المقاومة، والواضح أنه لم ينجح في تنفيذ ذلك الوعد، الأمر الذي يضعه في موقف محرج أمام ناخبيه من جهة، ومناوئيه السياسيين من جهة أخرى.

والسؤال هنا: ما هذا العالم الذي يسمح بربط مصير شعب كامل بسياسات بعض السياسيين ورغباتهم، التي كثيرا ما انتهكت القواعد السياسية الدولية والمنطق المقبول أو الواقعي، حتى لو اتسم بقدر من التطرف؟ ولذلك، فبرغم وقف إطلاق النار، فإن سكان غزة الذين يتجاوز عددهم المليونين غير مطمئنين تماما لحالة الهدوء النسبية، فهم يرونها مؤقّتة وناجمة عن بعض الضغوط التي ساهم فيها حجم العدوان ومآسيه ومشاهده التي حرّكت مشاعر الكثيرين وقلوبهم. فما إن أعلن عن وقف إطلاق النار، حتى هرع الآباء والأمهات للحديث عن تعليم أولادهم المحرومين من فرص الدراسة، بعد تدمير أغلب مدارس غزة ومستشفياتها وأغلب الخدمات الحياتية.

وفي غياب الموقف الدولي أو الإسلامي أو العربي الفاعل، ليس هناك من الضمانات ما يشجّع الفلسطينيين على البدء الفوري بإعادة بناء حياتهم. فالشعور العام السائد يتمحور حول حتمية اندلاع التوتر الأمني والسياسي والعسكري في المستقبل غير البعيد. لذلك، فالأرجح استمرار الوضع الراهن دون تغيير جوهري لصالح الفلسطينيين، فوقف إطلاق النار هدنة مؤقتة تتعرض لاختراق متواصل ولا تسمح بالتخطيط الاستراتيجي لإعادة بناء غزّة المدمّرة، في غياب استقرار طويل ووضع سياسي آمن.

وبرغم محاولة القفز على حقائق الصراع العربي ـ الإسرائيلي، خصوصا من قبل السياسيين العرب والغربيين، فإن هناك استيعابا لما نجم عنه من دمار في فصوله كافة، خصوصا الفصل الحالي من الصراع، فحجم الدمار البشري تجاوز ما هو معقول أو متوقع، فقد حصدت الطائرات الإسرائيلية التي حصلتها من أمريكا خصوصا إف ـ 35 أرواح الآلاف دون رحمة، فهي تقذف الحمم من مرتفعات عالية وتوجهها بأجهزة راداراتها المتطورة. إنه «تطوّر» عملاق في مجال قتل الروح البشرية دون حساب.

فإزهاق أرواح قرابة الخمسين ألفا ليس أمرا عاديا، بل مؤشر لفظاعة الصراع ووحشيته. وما يزال العدد في تصاعد برغم وقف إطلاق النار. وهناك مؤشر آخر لهذه الوحشية؛ فقد بلغ عدد الصحفيين والإعلاميين الذين فقدوا حياتهم 166، منهم 158 فلسطينيا وإسرائيليان وستة لبنانيين. وهذا الاستهداف أساسه خشية الإسرائيليين وحلفائهم من كشف حجم الخسائر البشرية في أوساط الفلسطينيين، وإخفاء سياسة القتل والإبعاد التي تعد مؤشرا لما أصبح يسمّى على نطاق واسع «الإبادة». كما دمّر القصف الإسرائيلي ثلثي المباني في غزّة، وبلغ عددها حوالي 164 ألفا.

لذلك، ليس غريبا أن تُظهر الصور دمارا ليس له نظير في العقود الثمانية الأخيرة، أي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؛ فالحرب بين الطرفين لم تكن متكافئة أبدا، فبينما خاضها الفلسطينيون وحدهم دون تدخل خارجي داعم، ألقت أمريكا بثقلها إلى جانب الإسرائيليين، ولم تكتف بتزويدها بالسلاح والعتاد فحسب، بل وضعت أساطيلها العسكرية في البحر الأبيض المتوسط قريبا من منطقة الصراع، وشاركت في استهداف مواقع المقاومة مع الجانب الإسرائيلي، فكانت حربا غير متكافئة؛ سواء من حيث القوة العسكرية لكل من الطرفين، أم حجم الضحايا والخسائر.

ثمة سؤال جوهري يفرض نفسه في ضوء العدوان الإسرائيلي الكاسح: هل حققت «إسرائيل» أهدافها من خوض واحدة من أبشع الحروب التي شنّتها؟ قبل بدء العدوان أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي أن هدف الحرب كان القضاء على قوى المقاومة، وفي مقدمتها حركة حماس وحزب الله. وفي الأيام الأخيرة التي حدثت فيها مفاوضات وقف إطلاق النار في العاصمة القطرية، الدّوحة، كان واضحا أن الإسرائيليين يتفاوضون مع حماس حول شروط الهدنة.

ودون ذلك التفاوض لم يكن هناك مجال لوقف المواجهات. هذا يعني أن أهم أهداف الحرب من وجهة النظر الإسرائيلية لم يتحقق، وأن طرفيها ما يزالان في موقعيهما، وفي غياب حالة الصلح بينهما سيظل الباب مفتوحا لصراعات ومواجهات مستقبلية، وهذا أمر محرج لرئيس الوزراء الإسرائيلي الذي قطع على نفسه عهدا لا يستطيع الوفاء به.

ولذلك، يُتوقع أن يواجه تحديات أكبر بعد تركه منصبه، إذ إن هناك قضايا قضائية مرفوعة ضده تتعلق بالاختلاس وسوء الإدارة. وتقع مسؤولية التصدّي لعقلية الاستئصال والقتل والتدمير الشامل على الجهات العربية والدولية المعنية بقضية فلسطين من جهة، وبأمن العالم من جهة أخرى. وهذه الجهات مدعوّة لتوثيق الانتهاكات للقانون الإنساني الدولي التي تحدث يوميا، بهدف وقفها من جهة، ومحاسبة ممارسيها من جهة ثانية؛ فشخصية نتنياهو مثيرة للجدل ليس لدى الجانب العربي فحسب، بل في الأوساط السياسية والشعبية الإسرائيلية.

يضاف إلى ذلك، أن بإمكان النشطاء الحقوقيين فتح ملف جرائم الحرب لمقاضاة قوات الاحتلال وقياداتها السياسية خصوصا نتنياهو. ودون تفعيل ذلك، سوف تتواصل الانتهاكات، وستكون ظاهرة «الإفلات من العقاب» عنوانا آخر للعدوان والعجز الدولي وخذلان المظلوم والتواطؤ مع الظالم.
إن ما يكابده سكان غزّة من متاعب يومية وحرمان من أبسط مستلزمات الحياة في ظل حصار إسرائيلي شرس، لا يمكن استيعابه إلا من خلال العدسة الفلسطينية نفسها.

القدس العربي
التعليقات (0)

خبر عاجل