مقالات مختارة

انتخابات ألمانيا القادمة: تحدي اليمين المتطرف

عمرو حمزاوي
الأناضول
الأناضول
يقترب مشهد اليمين المتطرف في ألمانيا من مشهده قبل سنوات في بلدان أوروبية مثل النمسا وهولندا وإيطاليا والسويد والدنمارك والتي صارت اليوم إما مع حكومات يقودها أقصى اليمين أو يشارك بها أو يضمن لها الاستمرار كحكومات أقلية في النظم البرلمانية.

ويصبح السؤال المطروح على أحزاب يمين ويسار الوسط كالمسيحي الديمقراطي والاشتراكي الديمقراطي وعلى مجمل القوى السياسية في ألمانيا هو كيف يمكن تفادي وصول قوى اليمين المتطرف إلى مقاعد الحكم في بلد دمر بها اليمين من قبل الديمقراطية وحكم القانون وأغرق العالم في حرب مجنونة وكارثية وارتكب جرائم إبادة مفزعة وحمل بها المجتمع ذنبا تاريخيا لم يتخلص منه بعد.

والحقيقة أن لصعود اليمين المتطرف في ألمانيا العديد من الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي لا تختلف عن أسباب الصعود في بقية البلدان الأوروبية. فمن التداعيات السلبية لتراجع معدلات النمو الاقتصادي والمتمثلة في ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، مرورا بأزمات المهاجرين واللاجئين الذين دوما ما يستخدمهم اليمين المتطرف كوقود لمقولاته العنصرية ولدعاية الحفاظ على هويات وطنية «نقية» وصولا إلى فضائح الفساد التي تلاحق مسؤولين حكوميين وسياسيين وعدم الرضاء الشعبي عن الدور الكبير الذي صار للاتحاد الأوروبي ومجالسه المختلفة في حياة الألمان.

على خلفية كل ذلك يصعد اليمين المتطرف ممثلا في حزب البديل لألمانيا ويضغط على الحياة السياسية الألمانية بمقولات شعبوية في الاقتصاد جوهرها الابتعاد عن الاتحاد الأوروبي وإقرار سياسات حمائية، وبخطاب عنصري في السياسة يرفض الهجرة واللجوء حتى وإن كان سوق العمل الألماني في أمس احتياج للأجانب، ودعاية احتجاجية متشددة تزعم خطر الأجانب (خاصة العرب والمسلمين) على الهوية الوطنية الألمانية.

غير أن لصعود اليمين المتطرف في ألمانيا خلفيات خطيرة خاصة تتعلق، من جهة أولى، بجاذبية الفكر العنصري لدى دوائر شعبية ليست بالصغيرة في الولايات الشرقية التي انقلبت بعد انهيار الحكم الشيوعي في 1989 على المقولات اليسارية ولم تقترب من مقولات يمين الوسط ويسار الوسط سوى بقدر يسير وانفتحت على خطاب ودعاية اليمين المتطرف على نحو لم يتوقعه كثيرون.

ومثلت موجات الهجرة واللجوء المتتالية من موجة الحرب الأهلية في يوغسلافيا السابقة في التسعينيات وصولا إلى الموجة السورية في 2015 والموجة الأوكرانية في 2022 القضية الكبرى الممكن استغلالها من قبل اليمين المتطرف للحصول على تأييد الناخبين وتحريك الاحتجاجات في الشوارع.

من جهة ثانية، لا يمكن الفصل بين الصعود السياسي لليمين المتطرف في ألمانيا وبين أعمال العنف العنصري التي تزايدت في الولايات الشرقية خلال السنوات الماضية وأسقطت ضحاياها من المهاجرين واللاجئين والأجانب. لا يعرف الكثيرون خارج ألمانيا حقيقة أن المحاكم الألمانية تنظر إلى اليوم في اتهامات جنائية ضد منتسبين إلى مجموعات نازية جديدة وشبكات إرهابية متطرفة تورطت في قتل مهاجرين ولاجئين ومواطنين من أصول أجنبية. 

ليس الحضور المستمر منذ عقد من الزمان لليمين المتطرف في السياسة الألمانية بأمر غير مسبوق في تاريخ جمهورية ألمانيا الاتحادية التي تأسست في الشطر الغربي في 1949 وفرضت نظمها الدستورية والقانونية والسياسية والاقتصادية على مناطق ألمانيا الشرقية السابقة حين تحققت الوحدة في 1990.

فقد حدث ذلك من قبل في خمسينيات القرن العشرين. آنذاك تمكنت أحزاب يمينية متطرفة من حصد مقاعد برلمانية قليلة، وطرحت خطابها الوطني الشوفيني الرافض للتصالح مع بعض حقائق ما بعد هزيمة النازية 1945، خاصة الاقتطاعات الإقليمية التي تعرضت لها ألمانيا في الشرق والجنوب الغربي، والرافض أيضا لقوانين محاسبة المسؤولين النازيين السابقين واستبعادهم من وظائفهم الحكومية.

وإذا كان اليمين المتطرف قد غاب عن البرلمان الفيدرالي منذ الستينيات لعدم تمكن أحزابه من تجاوز حاجز الـ5 بالمائة من أصوات الناخبات والناخبين الذي يؤهل للتمثيل في البرلمان، فإن حضوره في برلمانات الولايات الألمانية (غربا بين 1945 و1990، ثم في عموم ألمانيا منذ 1990) لم ينقطع.

في برلمانات الولايات تاريخيا، تراوحت نسب مقاعد أحزاب اليمين المتطرف بين 5 و10 بالمائة واتسمت أدوارها كأحزاب أقلية صغيرة بغلبة الطابع الشعبوي المعادي لوجود الأجانب في ألمانيا والمناهض لعمليات الاندماج الأوروبي التي أنتجت أولا السوق المشتركة ثم الاتحاد القائم اليوم. تاريخيا أيضا، لم تقبل الأحزاب السياسية، إن التقليدية كالمسيحي الديمقراطي والمسيحي الاجتماعي والاشتراكي الديمقراطي والديمقراطي الحر أو الحديثة نسبيا كالخضر واليسار (الأخير خرج من عباءة الحزب الشيوعي الذي حكم ألمانيا الشرقية السابقة قبل 1990) لا الائتلاف ولا التعاون أو التنسيق مع اليمين المتطرف.

في الولايات الواقعة في شرق ألمانيا، تغيرت صورة الحضور المحدود وغير المؤثر لأحزاب اليمين المتطرف خلال السنوات القليلة الماضية. ارتفعت نسبهم في برلمانات ولايات ساكسونيا وبراندنبورغ ومكلينبورغ- فوربومرن وساكسونيا ـ انهالت إلى فوق 10 بالمائة، بل تخطت في بعض البرلمانات 20 بالمائة. وأسهم تأسيس حزب «البديل لألمانيا» في فبراير 2013 وانصهار العديد من الكيانات الصغيرة لليمين المتطرف بداخله في استحداث واجهة حزبية موحدة قادرة على المشاركة بكثافة في انتخابات الولايات وعلى الفعل السياسي على المستوى الاتحادي، وقادرة من ثم على اجتذاب المزيد من الاهتمام الشعبي والإعلامي.

ودفعت بذات الاتجاه عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية متنوعة، منها انتشار الحركات العنصرية والمجموعات النازية الجديدة في شرق ألمانيا التي لم يتردد حزب «البديل لألمانيا» في الانفتاح عليها ودمج مفرداتها ومضامينها في خطابه العلني.

يوظف العنصريون والنازيون الجدد المصاعب المجتمعية التي رتبها استقبال ألمانيا لأعداد كبيرة نسبيا من اللاجئين بغرض الترويج من جهة أولى لخطاب كراهية ضد الأجانب وضد الإسلام، ومن جهة ثانية لخطاب «خوف من الغرباء» الذين قدموا للدراسة وللعمل وللحياة ويوصفون كطفيليين يستنزفون رخاء وتقدم ألمانيا (مثلما كان العنصريون والنازيون القدامى يوصفون اليهود الألمان أي اليهود من مواطني البلاد كمصاصي دماء وطفيليين).

مثل هذه المفردات والمضامين يستخدمها بعض سياسيي حزب «البديل لألمانيا» على نحو ممنهج، وعليها اعتمدوا في صياغة خطابهم الانتخابي في انتخابات برلمانات الولايات خلال السنوات القليلة الماضية وفي الانتخابات الفيدرالية الأخيرة (من يبحث عن نموذج لتلك الحالة بين سياسيي «البديل لألمانيا» يستطيع أن يجدها عند ألكسندر جوالاند الذي يشغل مقعدا في البرلمان الاتحادي منذ دورتين).

ومن العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي مكنت اليمين المتطرف أيضا من اجتذاب المزيد من الاهتمام الشعبي والإعلامي تأتي الأزمات المتتالية التي يواجهها الاتحاد الأوروبي وتداعياتها على ألمانيا، فلأنها تملك الاقتصاد الأكبر في أوروبا ولأنها المستفيد الاقتصادي والتجاري الأول من الاندماج الأوروبي ومن العملة الأوروبية الموحدة، تدخلت ألمانيا أكثر من مرة لإنقاذ الاقتصاديات المتعثرة لبعض البلدان الأوروبية من إيرلندا إلى إسبانيا والبرتغال واليونان وضخت أموالا طائلة لمنع انهيار العملة الموحدة.

وحمل ذلك الخزانة الألمانية وبالتبعية دافعي الضرائب بين المواطنات والمواطنين أعباء إضافية، ونتج عنه ارتحال أعداد كبيرة من الشباب الأوروبي في البلدان المتعثرة إلى سوق العمل الألمانية بحثا عن الوظيفة والدخل والتأمينات الاجتماعية وحدثت من جراء ذلك بعض الإزاحات في سوق العمل كان ضحاياها الرئيسيون العمال والمهنيون الألمان أصحاب المؤهلات التعليمية والمهنية المتوسطة.

استغل اليمين المتطرف، ممثلا في حزب «البديل لألمانيا» الأزمات الأوروبية وذيوع «الامتعاض من أوروبا» بين بعض القطاعات الشعبية للعزف على أوتار يعرفونها جيدا، أوتار «ألمانيا أولا» و«الألمان قبل الأوروبيين الكسالى» و«استعادة وطننا ومجتمعنا لنا» وغيرها.

مثل هذه الأوتار، ونظائر لها ترددت أصداؤها في بريطانيا قبل استفتاء الانفصال عن الاتحاد الأوروبي وفي الولايات المتحدة الأمريكية قبل انتخاب دونالد ترامب رئيسا في 2016 وفي فرنسا أثناء الصراع الانتخابي على الرئاسة بين ممثلة اليمين المتطرف ماري لوبن ومرشح التقدم إيمانويل ماكرون، ساعدت حزب «البديل لألمانيا» على تخليق موجة للوطنية الشوفينية مكنته على الرغم من انحصارها تلك الموجة جغرافيا في الولايات الشرقية من حصد المزيد من أصوات الناخبات والناخبين في برلمانات الولايات وفي البرلمان الفيدرالي.

يستحق الصعود المستمر لليمين المتطرف في ألمانيا أن تشتبك معه الأحزاب السياسية الديمقراطية يمينا ويسارا وأن يشتبك معه المجتمع المدني الحامل لقيم الحرية وحقوق الإنسان، لكيلا تقترب ألمانيا بتاريخها الصعب قبل 1945 من أوضاع مشابهة لما يحدث منذ عقود في بلدان أوروبية أخرى صارت بها أحزاب اليمين المتطرف مكونا أساسيا ودائما للمشهد السياسي.

إلا أن التعامل مع الأمر وكأنه كارثة كبرى حاقت بالديمقراطية الألمانية وباستقرار البلد الأهم في القارة الأوروبية يعد من قبيل المبالغة التي لا تخدم أبدا هدف الاشتباك الموضوعي مع اليمين المتطرف ولا تساعد على سحب البساط من تحت أقدام سياسييه.

ففي نهاية المطاف، تصوت أغلبية الناخبين الألمان لسياسيين يرفضون اليمين المتطرف وينتمون لأحزاب يمينية ويسارية متنوعة تلتزم المبادئ والقيم الديمقراطية. جميع تلك الأحزاب يناهض خطاب كراهية الأجانب وخطاب الخوف من الغرباء، ويبتعد تماما عن العزف على أوتار الشعبوية والمقطوعات الوطنية الشوفينية كألمانيا أولا وغيرها، ولا يقبل التنسيق أو التعاون مع اليمين المتطرف تحت القبة الزجاجية للبرلمان الفيدرالي مثلما لم يتورط في تنسيق معه في برلمانات الولايات.

بل أن وصول اليمين المتطرف إلى البرلمان الفيدرالي قد تصبح له انعكاسات إيجابية على الأحزاب السياسية في اليمين واليسار، لأن اشتباكها مع حزب «البديل لألمانيا» والحركات العنصرية والنازية الجديدة الواقفة من ورائه حتما سيعيد لها شيئا من حيوية الرؤى والنقاشات السياسية التي افتقدتها خلال الفترة الماضية.

القدس العربي
التعليقات (0)

خبر عاجل