أفكَار

المسلمون في أوروبا.. من هامش التاريخ إلى قلب الجدل السياسي

المسلمون في أوروبا ليسوا زوارًا مؤقتين، ولا مجرد إرث من الحرب العالمية الثانية. هم جزء من الحاضر والمستقبل الأوروبي.. الأناضول
المسلمون في أوروبا ليسوا زوارًا مؤقتين، ولا مجرد إرث من الحرب العالمية الثانية. هم جزء من الحاضر والمستقبل الأوروبي.. الأناضول
عند كل انتخابات أوروبية، وصعود اليمين الشعبوي، يبرز سؤال قديم جديد، ما الدور الذي يمكن أن يلعبة المسلمون؟ وما مستقبلهم السياسي في ظل هذه التغييرات؟ غالبًا ما تأتي الإجابة مشبعة بالتصورات النمطية أو الأسئلة الجدلية حول الهوية والاندماج. لكن لفهم الحقيقة المعقدة، يجب العودة إلى السياق التاريخي والجيوسياسي الذي صنع هذا الوجود.

المسلمون في أوروبا ليسوا مجرد كتلة متجانسة، بل فسيفساء متنوعة تجمع بين إرث العمالة بعد الحرب العالمية الثانية وموجات اللجوء الأخيرة الناتجة عن الاستبداد أولا ثم بسبب الثورات العربية ومآلات الخصومة مع أركان الاستبداد.

بعد الحرب العالمية الثانية، حين كانت أوروبا تلملم أشلاءها وتعيد بناء ما دمرته الحرب، وُجهت الدعوة إلى آلاف العمال من شمال إفريقيا، وتركيا، وجنوب آسيا. جاء هؤلاء الرجال والنساء، ليس كمستوطنين يبحثون عن وطن جديد، بل كقوة عاملة مؤقتة تُسهم في نهضة القارة الممزقة. عقود مرت، واستقرت هذه الجاليات، لكنها بقيت حبيسة أدوار اقتصادية دون أن تتحول إلى قوى سياسية، مما أفرز اليوم أزمة وجودية للمسلمين في أوروبا.

هذا التداخل بين الطبقات العمالية التي جاءت لبناء أوروبا في القرن العشرين والموجات الحديثة التي فرت من الحروب والصراعات في الشرق الأوسط، خلق مشهدًا معقدًا يعيد تشكيل الديناميات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في أوروبا، وفي الوقت نفسه يكشف عن تحديات أعمق مرتبطة بالهوية، المواطنة، ومكانة الإسلام في قارة تعيد تعريف نفسها باستمرار.

أزمة المسلمين في أوروبا ليست مجرد مشكلة اندماج، بل أزمة مشروع سياسي ومجتمعي غاب عن تشكيل هوية موحدة. إنهم يشكلون اليوم حوالي 25 مليون نسمة، يمثلون ثاني أكبر مجموعة دينية في أوروبا، ومع ذلك فإنهم ما زالوا يقفون عند هامش الحضور السياسي، وكأنهم ضيوف في أوطانهم.

إرث العمالة.. بناء القارة دون التمثيل فيها

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، اعتمدت أوروبا على يد عاملة خارجية لإعادة بناء بنيتها التحتية المدمرة. العمال المسلمون، خصوصًا من الجزائر، المغرب، تركيا، وباكستان، لعبوا دورًا محوريًا في هذا المشروع. لكن هؤلاء المهاجرين جاءوا بعقلية "المؤقت"، حيث اعتبروا أوروبا محطة لتحسين أوضاعهم الاقتصادية، مع نية العودة إلى أوطانهم الأصلية، لم تكن هناك نية للانخراط في الحياة السياسية أو بناء مؤسسات مجتمعية. فرنسا، على سبيل المثال، استقبلت مئات الآلاف من الجزائريين بعد الاستقلال، لكنهم ظلوا عالقين في المساكن العمالية بمناطق حضرية مهمشة، دون أي جهود تُذكر لدمجهم في النسيج الاجتماعي أو السياسي.

أزمة المسلمين في أوروبا ليست مجرد مشكلة اندماج، بل أزمة مشروع سياسي ومجتمعي غاب عن تشكيل هوية موحدة. إنهم يشكلون اليوم حوالي 25 مليون نسمة، يمثلون ثاني أكبر مجموعة دينية في أوروبا، ومع ذلك فإنهم ما زالوا يقفون عند هامش الحضور السياسي، وكأنهم ضيوف في أوطانهم.
خلال السنوات السبعون، لم يعد المهاجر إلي وطنه، حيث فضل المهاجرون أنفسهم البقاء على هامش النظام السياسي، متمسكين بعلاقاتهم الثقافية والروحية ببلدانهم الأصلية. ولم يندمجوا سياسيا في القضاء العام المؤثر، ونتيجة ذلك برز انعدام تجانس بين جيل العمال الأول يعيش بعقلية "المغترب”" والجيل الثاني الذي يبحث عن هويته في خضم الانتماء المزدوج، بينما عجز الجيل الثالث عن الانتقال من الإرث العمالي إلى دور فاعل في صياغة أوروبا متعددة الثقافات.

وفقًا لتقرير صدر عام 2021، فإن نسبة كبيرة من المسلمين في أوروبا لا تزال تنتمي إلى فئات عمالية أو شبه عمالية. هذا الوضع جعلهم عرضة للتهميش السياسي والاجتماعي. فبينما ساهموا في بناء الاقتصاد الأوروبي، لم يُمنحوا الأدوات اللازمة للمشاركة في صياغة مستقبل القارة

موجات اللجوء الحديثة.. من الثورة إلى الاستقطاب

مع ثورات الربيع العربي التي انطلقت عام 2011 وما أعقبها من حروب أهلية وانهيارات سياسية في منطقة الشرق الأوسط، شهدت أوروبا موجة لجوء غير مسبوقة. وفقًا للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، استقبلت أوروبا أكثر من 6.5 مليون لاجئ منذ عام 2014، جزء كبير منهم من دول ذات أغلبية مسلمة مثل سوريا، العراق، وأفغانستان، والكثير منهم لديه تعليم جيد، ومهارات دقيقة .

على عكس العمالة القديمة، جاء هؤلاء اللاجئون ليس بحثًا عن فرص عمل فقط، بل هربًا من العنف والدمار. لكن وصولهم أثار جدلًا واسعًا في أوروبا حول الهوية الوطنية، وعبء اللاجئين، وقيم التعددية، وهذا الجدل كانت له آثار متعددة علي مستويات الصراع الأوروبي البيني، حيث أعادت موجات اللجوء تشكيل المشهد السياسي الأوروبي، حيث صعدت الأحزاب اليمينية المتطرفة، مثل حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) أو التجمع الوطني الفرنسي بقيادة مارين لوبان، كان جزءًا من رد فعل شعبي على هذه الموجات. هذه الأحزاب تبنت خطابًا شعبويًا يعتبر المسلمين تهديدًا للهوية الأوروبية. وفقًا لاستطلاع أجرته Pew Research Center عام 2022، يعتقد حوالي 45% من الأوروبيين أن الإسلام “لا يتماشى” مع القيم الغربية.

أما اقتصادياً رغم الجدل السياسي، كان لموجات اللجوء أثر اقتصادي معقد. فمن ناحية، زادت المنافسة على الوظائف في بعض القطاعات، ما أدى إلى تصاعد مشاعر الاستياء في الأوساط العمالية. لكن في المقابل، جلب اللاجئون مهارات جديدة وشبابًا لاقتصادات تعاني من شيخوخة السكان. على سبيل المثال، أظهرت إحدى الدراسات 2020، أن اللاجئين السوريين في ألمانيا ساهموا بزيادة الناتج المحلي الإجمالي بمعدل 0.3% سنويًا منذ عام 2016.

الأزمة السياسية.. هوية بلا مشروع

مع مرور الوقت، أصبحت أوروبا ساحة لصراع الهوية بالنسبة للمسلمين، فبدلًا من أن يُنظر إليهم كمواطنين، أصبح وجودهم يُختزل في قضايا مثيرة للجدل: الحجاب، الإرهاب، ومشاكل الاندماج. النخبة السياسية الأوروبية لم تسهم في تخفيف هذا العبء، بل استغلت الإسلاموفوبيا كأداة في خطابها الشعبوي، مما عمّق من الشعور بالاغتراب لدى المسلمين.

على الجانب الآخر، لم تنجح الجاليات المسلمة في بناء مشروع سياسي يعبر عن هويتها الأوروبية، رغم تاريخ طويل من التعددية التي شهدتها أوروبا. يبدو المسلمون ككتلة متفرقة، بلا رؤية واضحة، وأحيانًا بلا قيادات قادرة على تجاوز الخلافات المذهبية والثقافية التي ورثوها من بلدانهم الأصلية.

وفقا لاحدي الدراسات يشكل المسلمون حوالي 5% من سكان أوروبا، إلا أن تمثيلهم السياسي وتأثيرهم المجتمعي غالبًا ما يواجه عقبات هيكلية وتحديات متعلقة بالتصورات العامة. تظهر الدراسات أن تمثيلهم في البرلمانات الوطنية الأوروبية يقل عن 2% في المتوسط، مما يعكس عوائق هيكلية ومجتمعية تشمل السياسات التمييزية، ضعف عمليات الاندماج، والتهميش الاجتماعي.

تتأثر مشاركة المسلمين في الانتخابات بعوامل مثل الانخراط الديني، الحراك المجتمعي، والبيئة السياسية. وتشير البيانات إلى أن السياسات الإقصائية أو المواقف العامة المعادية للإسلام تقلل من المشاركة السياسية، حيث تؤثر سلبًا على إحساس المسلمين بالانتماء. ومع ذلك، تظهر بعض البلدان مثل المملكة المتحدة وفرنسا نشاطًا سياسيًا متزايدًا للمسلمين، نتيجة للنمو الديموغرافي وجهود المجتمعات المحلية لتعزيز التمثيل.

التحديات المشتركة.. بين العمالة واللجوء

رغم الاختلاف بين إرث العمالة وموجات اللجوء، إلا أن التحديات التي تواجه المسلمين في أوروبا متشابهة:

1 ـ  غياب التمثيل السياسي

سواء كانوا من أصول عمالية قديمة أو لاجئين حديثين، يعاني المسلمون من ضعف التمثيل السياسي. في فرنسا، حيث يشكل المسلمون حوالي 10% من السكان، يمثلون أقل من 2% من النواب في البرلمان ، ويعود ذلك لاسبابمتعددة ضعف التمثيل السياسي للمسلمين في فرنسا، رغم أنهم يشكلون حوالي 10% من السكان، يعزى إلى عدة أسباب هيكلية ومجتمعية ، أهمها النظم الانتخابية القائم علي الدوائر في بعض البلدان ، الإسلاموفوبيا والتمييز الثقافي يشكلان عائقًا رئيسيًا ، انقسام الجليات المسلمة على أسس عرقية أو طائفية، مما يضعف قدرتها على التنظيم السياسي الموحد ، إضافة الي غياب منصات سياسية تمثل قضاياهم بشكل مباشر يساهم أيضًا في ضعف التمثيل ، انخفاض معدل المشاركة السياسية لشعور بعض المسلمين بالتههميشمن النظام السياسي ، وضعف الثقة في المؤسسات الفرنسية يعوق انخراطهم في الأنشطة السياسية.

2 ـ الانقسامات الداخلية

الاختلافات الثقافية والمذهبية التي جلبها المسلمون معهم، سواء من شمال إفريقيا أو الشرق الأوسط، أعاقت بناء هوية إسلامية أوروبية موحدة. بدلًا من ذلك، استمرت هذه الجاليات في إعادة إنتاج صراعاتها السياسية والدينية داخل أوروبا ، وهذا للأسف الشديد يؤدي إلى تشتت الأصوات وصعوبة تشكيل كتلة سياسية موحدة. هذه التعددية قد تعرقل جهود التوافق على أجندة مشتركة تُعزز المصالح الإسلامية في المؤسسات السياسية ، إعادة إنتاج الصراعات الداخلية من دولها الأصلية، مما يؤدي إلى استقطاب داخلي وعدم تعاون بين المجموعات المختلفة ، هذا الوضع يحد من القدرة على تقديم مرشحين سياسيين متفق عليهم أو على بناء منظمات قوية قادرة على التفاوض بفعالية ، ميلان مجتمعات الجاليات إلى تشكيل جمعيات ومؤسسات محلية تعبر عن مجموعات فرعية بدلاً من تمثيل الأمة الإسلامية ككل.

أصبحت أوروبا ساحة لصراع الهوية بالنسبة للمسلمين، فبدلًا من أن يُنظر إليهم كمواطنين، أصبح وجودهم يُختزل في قضايا مثيرة للجدل: الحجاب، الإرهاب، ومشاكل الاندماج. النخبة السياسية الأوروبية لم تسهم في تخفيف هذا العبء، بل استغلت الإسلاموفوبيا كأداة في خطابها الشعبوي، مما عمّق من الشعور بالاغتراب لدى المسلمين.
يؤدي هذا إلى ضعف التنسيق والاستراتيجية السياسية على المستوى الوطني ، ضعف القوة الاقتصادية، إضافة الي التمييز والعداء المتزايد ضد الإسلام (الإسلاموفوبيا)، تدفع بعض الجاليات إلى الانعزال عن الحياة السياسية العامة، مما يقلل من نسبة المشاركة في الانتخابات أو الترشح للمناصب، التصورات السلبية عن المسلمين، سواء من وسائل الإعلام أو السياسات الحكومية، تُضعف من الثقة العامة بهم كفاعلين سياسيين. هذا يزيد من صعوبة وصول المرشحين المسلمين إلى دعم الأحزاب الكبرى أو الناخبين غير المسلمين.

3 ـ الإسلاموفوبيا والتهميش الإعلامي

وسائل الإعلام الأوروبية غالبًا ما تصوّر المسلمين من خلال عدسة الإرهاب والتطرف. دراسة أجرتها Islamophobia Watch عام 2023 أظهرت أن 70%من التقارير الإعلامية عن المسلمين في بريطانيا ترتبط بمشاكل أمنية. هذا الخطاب يعزز العزلة، ويجعل من الصعب على المسلمين الاندماج بشكل طبيعي، حيث ان التركيز الإعلامي على قضايا الإرهاب يخلق انطباعًا عامًا بأن المسلمين يشكلون تهديدًا، مما يقلل من فرص اندماجهم في المجتمع ويضعف قبولهم كقيادات سياسية ، وتدفعهم الي الانكفاء عن الانخراط في السياسة خشية الهجمات الإعلامية أو التعرض للتمييز، كما ان هذه التحيز الإعلامي تخلق صعوبات لدي المسلمين في بناء شبكات اجتماعية وسياسية تدعم وصولهم إلى المناصب المؤثرة، هذا الخطاب خاصة الذي يركز علي الهجرة  والاخطاء الفردية يعزز من سياسة معادة الإسلام والمهاجرين ما يؤدي إلى تقليص الحضور السياسي للمسلمين.

ما الذي يتطلبه الأمر؟

تحتاج الجاليات المسلمة في أوروبا إلى وقفة مع الذات. فلا يمكن معالجة أزمة الهوية والاندماج السياسي دون مواجهة الحقائق التاريخية والهيكلية التي تعيق التقدم.

1 ـ إعادة تعريف الهوية الأوروبية ـ الإسلامية

لتجاوز فكرة المسلمين في أوروبا كونهم "مهاجرين"، يجب أن يتغير الفهم العام حول هويتهم ودورهم في المجتمعات الأوروبية. الجيل الجديد من المسلمين في أوروبا ليس "وافدًا" أو "غريبًا" بل جزءًا لا يتجزأ من المشروع الحضاري الأوروبي. لهذا، يجب إعادة تعريف الهوية الإسلامية في أوروبا بطريقة تأخذ بعين الاعتبار الاختلافات بين الأجيال وتحترم الهوية الثقافية والدينية في الوقت نفسه. هذا التحول الفكري يتطلب:

ـ إعادة صياغة الهوية الأوروبية المسلمة**: يجب أن يتم تمثيل المسلمين كجزء من النسيج الاجتماعي والسياسي في أوروبا بدلاً من تصنيفهم كمجموعة غريبة أو منفصلة. الجيل الجديد هو جيل "أوروبي بامتياز"، ويجب أن يكون له الحق في المشاركة الفعّالة في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في أوروبا.

ـ يجب التصدي للأيديولوجيات التي تروج لصورة المسلمين كوافدين خارجيين لا ينتمون إلى القارة الأوروبية ثقافيًا أو دينيًا. هذه الصورة تعزز فكرة أن المسلمين غير قادرين على التعايش مع قيم المجتمعات الأوروبية، وهو ما يؤدي إلى تعميق التهميش والانعزال.

ـ يتطلب هذا التغيير الفكري الجرأة في مواجهة التحديات، وكذلك القدرة على الانخراط في حوارات معمقة لا تقتصر على السطح. يجب أن تكون هناك رغبة في إيجاد أرضية مشتركة بين مختلف الطوائف الإسلامية في أوروبا، مع ضرورة تجاوز الخلافات الداخلية والتركيز على ما يجمعهم.

 ـ من المهم أن يتضمن هذا التوجه إعادة فهم العلاقة بين الدين والثقافة في سياق أوروبي معاصر، بحيث يبقى المسلمون في أوروبا متمسكين بإيمانهم ومرجعياتهم الثقافية، لكن في نفس الوقت يتكيفون مع الواقع الأوروبي الذي يفرض عليهم القيم الأساسية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة.

ـ تقديم صورة شاملة للهوية الإسلامية التي تجمع بين التقاليد الإسلامية والإسهام الفاعل في المجتمع الأوروبي، يمكن للمسلمين في أوروبا أن يتحدوا في مواجهة الرهاب الإسلامي. دعمهم لقيم العيش المشترك والوحدة يعزز قدرتهم على مقاومة السياسات التي تستغل هذه المخاوف لتعميق الانقسامات.

هذا التوجه يتطلب وعيًا جماعيًا ورسالة فكرية عميقة تركز على بناء التفاهم والاحترام المتبادل بين جميع الأطياف الاجتماعية والثقافية في أوروبا، مع الحفاظ على التعددية التي تمثل جوهر المجتمع الأوروبي المعاصر.

2 ـ بناء مؤسسات عابرة للتوجهات

الأزمة التي تواجه المجتمعات المسلمة في أوروبا لا تقتصر على غياب القيادات السياسية فحسب، بل تشمل غياب المؤسسات الفاعلة التي يمكنها تمثيلهم كقوة سياسية واجتماعية مؤثرة. فعلى الرغم من أهمية القيادة الشخصية في أي حركة اجتماعية أو سياسية، إلا أن المؤسسات القوية والراسخة تُعد العامل الحاسم في الحفاظ على استدامة التأثير والمشاركة الفعّالة في الحياة السياسية والاجتماعية.

من الأمثلة البارزة في هذا الصدد، الجالية اليهودية في أوروبا التي استطاعت أن تبني لنفسها حضورًا مؤثرًا من خلال مؤسسات متماسكة، تحظى بوعي عميق بأهمية التنظيم كأساس فلسفي لحركتها داخل المجتمعات الأوروبية. هذه المؤسسات لا تقتصر على تمثيل حقوق ومصالح الجالية، بل هي متغلغلة في مفاصل النظام السياسي والاجتماعي الأوروبي، وتتسم بالتجديد والتخصص في آليات عملها، مما يضمن لها قدرة على التكيف والتأثير المستمر.

إن المؤسسات اليهودية في أوروبا تتسم بمرونة عالية وقدرة على التفاعل مع التطورات السياسية والاجتماعية، ما يمنحها قدرة على الحفاظ على استمراريتها وحيويتها. في المقابل، تواجه المؤسسات المسلمة تحديات كبيرة في هذا المجال، بما في ذلك الانقسامات المذهبية والضغوط الخارجية، وهو ما يؤدي إلى حالة من الترهل في بعض الأحيان ويؤثر سلبًا على قدرتها على التكيف مع التغيرات.

بدون هذا التنظيم المؤسسي المدروس، الذي يعكس وعيًا متجددًا ومواكبًا للتحديات المعاصرة، فإن المؤسسات ستصاب بالجمود والتكلس، مما يعوق قدرتها على التأثير والنمو. ومن هنا، يصبح بناء مؤسسات تمثل المسلمين في أوروبا ضرورة استراتيجية، ليس فقط من أجل تمثيل مصالحهم ولكن أيضًا لضمان استمرار وجودهم كقوة مؤثرة في النظام السياسي والاجتماعي الأوروبي.

3 ـ مواجهة الروايات السلبية

أحد أبرز التحديات التي تواجه المجتمعات المسلمة في أوروبا هو الصورة النمطية السلبية التي تُختزل فيها حياتهم ووجودهم، حيث يُنظر إليهم بشكل متكرر من خلال عدسة العنف والتطرف. وفقًا لدراسة أُجريت من قبل شبكة الاتحاد الأوروبي ضد العنصرية (European Network Against Racism) في عام 2023، يُعتقد 47% من الأوروبيين أن المسلمين يشكلون تهديدًا للقيم الأوروبية. هذه الصورة السلبية تستمر في التأثير على المواقف المجتمعية والسياسية تجاه المسلمين، مما يعزز الانعزالية ويُعيق اندماجهم الكامل في الحياة العامة.

لمعالجة هذا الوضع، يُعتبر الانخراط المباشر للمسلمين في مجالات الإعلام، السياسة، والعمل المجتمعي ضرورة ملحة. فالتغيير الفعلي لهذه الصورة النمطية لا يتحقق من خلال إلقاء اللوم على الثقافات المختلفة، بل من خلال تسليط الضوء على التنوع داخل المجتمعات المسلمة ومساهمتها الفاعلة في تعزيز القيم الأوروبية مثل الحرية والمساواة. وبالتالي، يصبح إشراك المسلمين في هذه المجالات ليس فقط وسيلة لتغيير الصورة النمطية، بل أداة لتحقيق إدماج سياسي واجتماعي حقيقي يساهم في تحسين العلاقات بين المسلمين والمجتمعات الأوروبية بشكل عام.

4 ـ المشاركة في الحركات التقدمية

بدلاً من الانغلاق على الذات، يمكن للمسلمين في أوروبا أن يعثروا على حلفاء طبيعيين في الحركات التقدمية التي تعبر عن قضايا مشتركة تؤثر في المجتمعات الأوروبية بشكل عام. إن قضايا العدالة الاجتماعية، مكافحة العنصرية، والدفاع عن حقوق الإنسان، تمثل جوهر الطموحات التي تجمع بين المسلمين وغيرهم من الفئات الاجتماعية في أوروبا. إذ تفتح هذه الحركات أبوابًا لتوحيد القوى من أجل بناء مجتمع أكثر عدلاً وتساويًا، وتحقيق مبادئ تكفل الحقوق لجميع أفراد المجتمع بغض النظر عن خلفياتهم الثقافية والدينية.

التاريخ الحديث شهد تزايد الوعي العام بأهمية حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، وهو ما يعكس تقاربًا بين المسلمات التي يوليها المسلمون في أوروبا الأولوية، وبين الأجندات التقدمية التي تعزز مكافحة التمييز والتهميش. فبدلاً من البقاء في عزلة أو الاستمرار في التفاعل مع الخطابات المعادية، يمكن للمسلمين أن يسهموا في تعزيز هذه القيم المشتركة في سياق أوروبي أوسع. الأمر الذي يسهم بدوره في تعزيز تمثيلهم السياسي والاجتماعي عبر منابر تحظى بتأييد شعبي واسع.

من خلال الانخراط الفاعل في الحركات التقدمية، يمكن للمسلمين أن يساهموا في تعزيز نهج شامل يعكس التعددية الثقافية ويواجه الهويات المغلقة، بما يعود بالنفع على المجتمع الأوروبي بأسره.

مخاوف مشروعة

أحد التحديات الكبرى التي يواجهها المسلمون في أوروبا اليوم هو الخوف من تكرار التاريخ، خاصة عندما يتعلق الأمر بتجارب الطائفة اليهودية في القارة. تاريخ الاندماج العميق للمجتمعات اليهودية في أوروبا، والذي كان في لحظة من اللحظات يعكس اندماجًا اجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا، انتهى في أوقات لاحقة بتصاعد مشاعر الكراهية والعداء ضدهم، مما أدى إلى انفجارات من العنف، كما حدث في محطات مظلمة مثل محاكم التفتيش، والاضطهادات التي وقعت في العصور الوسطى، ووصولًا إلى الهولوكوست في القرن العشرين.

الأزمة التي تواجه المجتمعات المسلمة في أوروبا لا تقتصر على غياب القيادات السياسية فحسب، بل تشمل غياب المؤسسات الفاعلة التي يمكنها تمثيلهم كقوة سياسية واجتماعية مؤثرة. فعلى الرغم من أهمية القيادة الشخصية في أي حركة اجتماعية أو سياسية، إلا أن المؤسسات القوية والراسخة تُعد العامل الحاسم في الحفاظ على استدامة التأثير والمشاركة الفعّالة في الحياة السياسية والاجتماعية.
هذه الأمثلة التاريخية تثير حالة من التوجس لدى المسلمين في أوروبا اليوم، خوفًا من أن تكون اندماجهم العميق في المجتمع الأوروبي في الوقت الراهن عرضةً لتطورات مشابهة. على الرغم من أن المجتمع الأوروبي قد شهد تقدمًا كبيرًا في مجال حقوق الإنسان والمساواة، فإن المشهد السياسي والاجتماعي الحالي يعكس وجود تيارات من اليمين المتطرف الذي يعارض التنوع الثقافي والديني.

على سبيل المثال، في العديد من الدول الأوروبية، زادت الهجمات على المسلمين في السنوات الأخيرة، حيث أظهرت تقارير مختلفة تزايد الاعتداءات على المساجد، والتهجم على النساء المحجبات، بالإضافة إلى صعود الخطاب المعادي للإسلام. هذه التطورات تُثير تساؤلات حول مدى استقرار مكانة المسلمين في المجتمع الأوروبي، ومدى استعدادهم لمواجهة حملات الكراهية التي قد تزداد في المستقبل.

الخشية تكمن في أن الاندماج الذي يبديه المسلمون قد يصبح مبررًا لتصاعد العنف ضدهم في حال حدوث أزمات اجتماعية أو اقتصادية، كما حدث مع اليهود في فترات تاريخية مشابهة. لذلك، يشكل التاريخ الأوروبي مصدرًا كبيرًا للقلق بالنسبة للمسلمين الذين يرغبون في التوفيق بين هويتهم الدينية والثقافية وبين انخراطهم في المجتمع الأوروبي.

من الهامش إلى المركز

المسلمون في أوروبا ليسوا زوارًا مؤقتين، ولا مجرد إرث من الحرب العالمية الثانية. هم جزء من الحاضر والمستقبل الأوروبي، ساهموا في بنائها اقتصاديًا، ويدفعون اليوم ثمن أزمات جيوسياسية ليست من صنعهم. أوروبا، التي تفخر بتعدديتها وقيمها الإنسانية، وأوروبا مطالبة بإعادة النظر في علاقتها بهذه الجاليات، ليس باعتبارها “تحديًا”، بل باعتبارها فرصة لإعادة تعريف مفهوم الهوية الأوروبية في القرن الحادي والعشرين ، تحقيق هذا الوجود يتطلب تحولًا في طريقة التفكير، من عقلية الهامش إلى عقلية المركز..

كما أن أوروبا مدينة لهم بالكثير من الإنجازات الاقتصادية والثقافية التي ساهموا فيها على مدى عقود، فإن المسلمين مدينون لأنفسهم ولأجيالهم القادمة بتبني مشروع يليق بحجم وجودهم وتاريخهم. أوروبا لا تتشكل فقط بالقيم التي أسسها التنوير، بل بالقدرة على التكيف مع التعددية التي أصبحت قدرها. والمشاركة الإسلامية الفعّالة ليست خيارًا إضافيًا، بل ضرورة حتمية لمستقبل أكثر توازنًا.
التعليقات (0)