مقالات مختارة

مقدمة لقصيدة حب للشهيد يحيى السنوار

مثنى عبد الله
جيتي
جيتي
كيف نُرثيك وأنت حي؟ وهل نبكيك وأنت تسكن العقول والقلوب؟ بل كيف يمكن أن نكتب لك نعيا وطيفك ومُثُلك ومبادئك لن تبرح الروح؟ فالنعي والرثاء والبكاء لمن غادروا وأنت باق لم تغادر.

كذبوا… كذبوا فمثلك لن يسكن الأنفاق، ولا يحتمي مثل الآخرين بسابع طبقات الأرض، ولا أن يُدرّع نفسه بالرهائن، فلطالما جفل الموت منك مئات المرات، ربما مُشفقا على هذه الأمة من أن يأخذ آخر القديسيين منها. لذا أنت لست بحاجة إلى كل ذلك كي تحمي نفسك.

ألست أنت القائل (نحن نخشى الموت على فراشنا كما يموت البعير) يا خالد بن الوليد، حتى كأني بالشاعر المتنبي ينهض من قبره وينشد مرة أخرى لك وحدك (وقفت وما في الموت شك لواقف، كأنك في جفن الردى وهو نائم ).

عابوا عليك سيدي الصلابة في الحق، وقالوا إنك أكثر الصقور تطرفا في المواقف، لكنهم نسوا أن الثبات على الحق وعدم المهادنة والمساومة فيه لا تعني تطرفا. وكيف تساوم على حق شعبك الذي قضيت من أجله عقدين من الزمن سجينا، ثم مطاردا في أرضك.

دعهم سيدي يقولون ما يقولون، فمشهد يُمناك المقطوعة لم تشل إرادتك عن أن تُلقي عصاك على عين عدوك الذي كان يرصدك، رغم أنك في النزع الأخير. فجفلوا منك ولم يجرؤوا على التقدم نحوك ثم أسرك، وكأنّ الأقدار أرادت أن لا تعطيهم فرصة الشماتة بك، وأنت بين أيديهم، فيقولون ها قد انتصرنا على السنوار، ثم يؤلفون القصص بأنهم قد وجدوك مختبئا في نفق وستارك رهائنهم.

كذبوا… كذبوا، سيدي، فليس بين الرجال من باع عمره لفلسطين مثلك وظل يقاوم. فقد كنت قادرا على أن تشتري عُمرا لبضع شهور أو سنين، بالمساومة على قضيتك، لكنك عرفت جيدا قصة عبدالله الصغير آخر أمراء الأندلس، وحاشاك أنت أن تجعل من فلسطين أندلس أخرى، وأنت الذي نبتّ في كل ذرة من ترابها منابت أشجار الزيتون فيها.

ورحم الله عبدالله بن رواحة الذي مات شهيدا في المعركة وهو يمجد رسول الله، وأنت ذهبت شهيدا مقبلا غير مدبر تمجد فلسطين وشعبك. ولا يعرف الشوق إلا من يكابده، ولا يعرف فلسطين إلا من يُعانيها، ولا يعاني فلسطين إلا فارس من أهلها جعلها ضميره الذي لا ينام وعقله الذي لا يتعب، وكنت أنت الضمير الذي يرى ويسمع والعاشق الذي يهيم على وجهه في حبها. لقد كتبت سيدي تاريخ فلسطين منذ أول منازلة لك مع العدو، ومنذ أول يوم وطأت فيه قدماك السجن، وأصدق التواريخ هي تلك التي تُكتب في سنوات القمع والاضطهاد، وأشرف حروفها وجُملها هي تلك التي تُكتب على جدران سجون العدو، حتى أصبحت أنت التاريخ والوثيقة الصادقة.

كيف لا وأنت ابن أرض فلسطين وسمائها وبحرها وهوائها، وأبناء فلسطين لا يُستوردون ولا يرتمون في أحضان أخرى من غير أمتهم، فصنعت نموذجك بشكل هندسي عربي وبحروف عربية وليست أعجمية، وكانت مهمتك شاقة صعبة وأنت تُؤسس مصدات للرياح المقبلة من كل صوب، وتحاول بلا كلل أن تُحصّن الخيام العربية، وأن تستنهض كل ضمير عربي من أجل فلسطين.

وكان أشد ما واجهت سيدي هم أولئك الذين يُحسبون من أهلك لكنهم أبوا إلا أن يفتحوا نوافذهم للعدو ويديروا ظهرهم لك. كان هذا هو مشروعك في استنهاض الأمة، وكنت تعرف جيدا ما سيواجهك، ليس من الناس الذين صمّوا آذانهم واتهموك بشتى التهم، بل من أولئك الذين فتحوا الشبابيك للعدو فتسربت سمومهم إلى كل زاوية، وباتوا يشتمونك ومن معك في خندق الجهاد.

سلام عليك سيدي أيها القديس المُتعب المُسربل بتراب الوطن، وأنت تخط خطوط الحياة الحرة الكريمة، وتُبيّن طريق الحرية والكرامة بأدق التفاصيل، وبلا ملل… سلام عليك وأنت تبذل الدماء بكرم باذخ وأنت الواهب الناذر.. سلام عليك لأنك كنت دائما تستحضر تاريخ أمتك في كل خطوة وساعة.. سلام عليك وأنت المنفعل غير المُزايد، الذي رسم أجمل لوحة وهو على كرسيه وحيد، وما زال يقاتل… سلام عليك وأنت تنظم أعظم مُعلقات الشعر العربي وتُعلقها على جدران فلسطين والوطن العربي في آخر نبضة قلب..

سلام عليك وأنت تتسربل بالإيمان المنقطع النظير، فكان أقداما إضافية لك، وسيوفا مشرعة بيديك، وجنودا لا يراها إلا أصحاب المبادئ، وزمنا مُضافا فوق حسابات الزمن المعروف. لذلك ألقيت بالحذر على الريح وأغطية الرأس على ألسنة اللهب وأحببت المخاطرة، لأنك تعرف جيدا أن التغيير الجذري لن ينتهي دائما بالفرح، لكن شعبك الذي تولد أجياله جيلا بعد جيل في بوتقة الاضطهاد والقتل والدمار والتهجير والتشرد، يستحق من يسعى لاستعادة عالمهم المسروق من الأعداء.

لقد كانت فلسطين رومانسيتك وجذرك النضالي سيدي، وهذا اكتشاف لا يعرفه إلا المجاهدون، وهو قوة لا تعترف بالسياقات المحددة، وهو اندفاع مطلوب وتجاوز محسوب، وولوج في مواقف “يتجبجب” منها الخائفون. ولذا اختلفوا معك واتهموك وحاربوك وحاصروك وجعلوك من غير المرغوب فيهم… كانوا يريدونك أن تسير في الزوايا وعلى حافات الطرق، وأن يُلقنوك ما يجب أن تقول فتعطي على قدر ما تأخذ ولا تضيف، لكنك لا تحب الظلال الرمادية، ولا أنصاف الحلول، وأسلحتك ليست كلمات، بل هي أفعال لأنك تؤمن بأن الأفعال تتحدث بصوت أعلى من كل الكلمات، وها هو نابليون يقول، إذا كنت تريد شيئا جيدا فافعله بنفسك. وسيبقى التاريخ يُروى على أنه قصة رجال عظماء.

فيا أرض فلسطن الحبيبة ها قد جاء شهريارك البطل المُعفّر بالدماء الطاهرة الزكية، فاحتضنيه وضميه إليك بقوة ثم دعيه ينام، ولتكن هذه الليلة أول الليالي في الكتاب الجديد، الذي ستقرأه الأجيال العربية التوّاقة لنهوض جديد من خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وشرحبيل… وسلام على عُمر بن الخطاب وهو يقول (لا أساوي بين من قاتل رسول الله ومن قاتل معه).. وسلام على السنوار وهو الذي قاد قتال الأمة ضد أشرس أعدائها عقودا من السنين، وتجمّعت فيه أرواح شجعانها وفرسانها، فاقتحم المألوف واستفز الجمود الذي ران على الأمة، فصار هديا يُهتدى به، وطريقا سالكا لصُنّاع الحياة الحرة الكريمة، الذين لا يستوحشون السير فيه رغم قلة سالكيه، كما يقول علي بن أبي طالب.. وسلام على أمهاتنا اللائي كُنّ يقُلن ليس في الحياة غنى كغنى الاستشهاد.

القدس العربي
التعليقات (0)