قضايا وآراء

في ذكرى يوم "تطهير الذاكرة".. ها هنا وهناك

هشام الحمامي
"حالة الحصار نفسها أحدثت حالة لا نظير لها من الالتحام بين المقاومة والناس"
"حالة الحصار نفسها أحدثت حالة لا نظير لها من الالتحام بين المقاومة والناس"
لجمال الدين الأفغاني رحمه الله (ت: 1879م) نداء مشهور وجّهه لأهل المشرق في وقت من أشد الأوقات الظلام حُلكة في تاريخنا الحديث، وروعة النداء ستتمثل في معناه، بالقدر الذي سيجعله نداء ممتدا عابرا للزمان بالمعنى الوجودي الكامل، فسيتناول الحياة والموت، وما بعد الموت.. سيقول لنا موقظ الشرق: "عيشوا كباقي الأمم أحرارا سعداء، أو موتوا مأجورين شهداء".

هو بحق "موقظ الشرق" كما سماه سعد باشا زغلول رحمه الله (ت: 1927م)، ونداؤه هذا ما هو إلا عين ما رأيناه ونراه من "أهل العزائم والأنوار" في غزة. ويصح هنا أن نقول إن "طوفان الأقصى" هو أول تجسيد تاريخي حق لهذا النداء الذي ظل يتحرك عبر الأجيال، حتى تسلمه الجيل الذي وعاه بحق انخراطه في أعماق معناه بالفهم والمعاناة.. معاناة "حصار" لم ير له التاريخ الحديث مثيلا!

هل كانت من فائدة لـ"الحصار" الرهيب الذي فُرض على القطاع برا وبحرا وجوا 17 سنة، بتعاون واشتراك بين السلطة الفلسطينية التي لا يُعرف لها مكان في الصف الوطني الفلسطيني، وبين إسرائيل (أمريكا والغرب) في مشهد دولي وإقليمي بالغ الريبة! فلقد اتفق الجميع على حرمان غزة وأهلها من العيش كباقي الأمم (أحرارا سعداء)؟

* * *
لا يمكن فهم الكُليّ إلا في الجزئي، وهذا حقيقي، فحياة الخطر التي عاشها أهل غزة، وفي القلب منهم حماس، وفى القلب منها الكتائب المسلحة (القسام)، أنتجت ما رأيناه ونراه على مدى سنة بأكملها

فهل كان هذا الحصار هو الرحم الذي تكون فيه هذا "الميلاد العظيم"؟ نعم.. ويحق لنا وللأمة أن نتذكر يوم هذا الميلاد.. 7 تشرين الأول/ أكتوبر.

وصحيحة هي تلك المقولة: "عش في خطر"، التي قالها الفيلسوف الألماني المزعج نيتشة (ت: 1900م)، صحيحة تماما، وسننتبه بحكم ثقافتنا الأصيلة إلى أن لها بعدا دينيا هاما، يعرفه المؤمنون من القرآن العظيم (سورة الشورى)، إذ سنرى أن الذين يؤمنون بالآخرة "مشفقون" منها، رغم إيمانهم، ورغم عملهم الصالح، وسيظل الإحساس اليقظ في العزائم والهمم يرابط في قلوبهم، خوفا وحفظا وصونا من جهة، وعملا وسعيا ورجاء من جهة أخرى.

* * *

يقولون إنه لا يمكن فهم الكُليّ إلا في الجزئي، وهذا حقيقي، فحياة الخطر التي عاشها أهل غزة، وفي القلب منهم حماس، وفى القلب منها الكتائب المسلحة (القسام)، أنتجت ما رأيناه ونراه على مدى سنة بأكملها.

ولن نذهب بعيدا حين نقول إن جهاز "مجد" الأمني، الذي تم تأسيسه مبكرا بعد انتشار ظاهرة الاختراقات للصف الفلسطيني من الموساد والأجهزة الأمنية الغربية، ما هو إلا أحد نتائج الشعور بـ"الخطر". والطريف أن دوره اتسع بجانب إجراء التحقيقات مع عملاء إسرائيل، إلى اقتفاء آثار ضباط المخابرات وأجهزة الأمن الإسرائيلية نفسها.

* * *

ليس هذا فقط، بل إن حالة "الحصار" نفسها أحدثت حالة لا نظير لها من الالتحام بين المقاومة والناس، ولا يحتاج ذلك إلى دليل، وسبق وكتبت عنه صحفية إيطالية وقالت: لا يمكن تصور صمود الناس في غزة إلا من خلال نافذة تقول: إنهم كانوا متجهزين لهذه الأيام، وتجهيزا يفوق ما هو عادي.. وصدقت.

* * *

هذه الحالة سيتم العمل على منع تكونها وتجليها في "عالم الإسلام" من خمسينيات القرن الماضي على أيدي النظام العربي الرسمي.
سيتم محو وشطب كل المفردات الزائفة المزيفة وسيتم إبدالها بالحقيقي من كل حق.. ستُشطب "الرواية الغربية" عن إسرائيل وكل خرافات التاريخ المتداولة في فصول تلك الرواية، وستظهر وتعلو "رواية التاريخ الحق" الذي أصبح الآن حديثا عاديا في ساحات الجدل والنقاش الدائر في العالم كله، وليس أوروبا وأمريكا فقط!!

وما كان رعب بريطانيا من ظاهرة المجاهد الشهيد عز الدين القسام الذي حاربته هو و"العصبة القسامية" وقتها سنة 1935م بشراسة رهيبة، إلا لمنع تلك "الحالة" من التوسع والانتشار، والتي كانت كفيلة بإنهاء الوجود البريطاني نفسه، وليس فقط منع ما حدث بعدها وحتى نكبة 1948.

* * *

وسنرى أن اختيار حماس اسم الشهيد "عز الدين القسام" اسما للكتائب المسلحة بعدها، ما كان إلا تصحيحا لمسار التاريخ، الذي أعوج طويلا على أيدي كل معوج أثيم.

لكن "طوفان الأقصى" جاءت، ليس فقط لتصحيح مسار هذا التاريخ، ولكن وهو الأهم لـ"تطهير الذاكرة" من كل ما علق بها من رواسب وشوائب، سواء بفعل الأمد الذي طال، أو بفعل فاعل السوء، الذي كان أشد ما يكون حرصا على ملئها بالأوحال.

سيتم محو وشطب كل المفردات الزائفة المزيفة وسيتم إبدالها بالحقيقي من كل حق.. ستُشطب "الرواية الغربية" عن إسرائيل وكل خرافات التاريخ المتداولة في فصول تلك الرواية، وستظهر وتعلو "رواية التاريخ الحق" الذي أصبح الآن حديثا عاديا في ساحات الجدل والنقاش الدائر في العالم كله، وليس أوروبا وأمريكا فقط!!

* * *

ستكون فكرة أوسلو والتطبيع والشرق أوسط الجديد، والحل الانتقالي بعيد المدى، والسلام الاقتصادي، وكل هذه الأوهام، خارج هامش التاريخ، تمهيدا لإلقائها في مكانها المناسب من سلة المهملات.

ستسقط مقولات مثل: أمريكا تعلم كل شيء، مفاتيح المشكلة والحل في يد أمريكا، كل أوراق اللعبة في يد أمريكا، لتحل محلها أنا حقيقة: "أنا أجاهد إذن أنا موجود"، لأن الجهاد سنة ماضية في الوعي الأول بحقائق التاريخ الذي تكونت حوله تلك الأمة، التي هي خير أمة، بالنص القرآني الكريم أولا، وبمقتضيات الوفاء بحق هذه الخيرية ثانيا.

* * *

المقام يطول ويطول، لذكر وتذكر ما قامت به "طوفان الأقصى" من تطهير لـ"الذاكرة"، أهم مكون من مكونات الوعي بالذات التاريخية لأمتنا كلها، وفي القلب منها القدس والأقصى.

x.com/helhamamy
التعليقات (0)