أفكَار

نحن وإيران.. في الحاجة إلى الوعي التاريخي

المصالح الاستراتيجية العربية ليست مع تأبيد العداء لإيران ولكن مع الذكاء الجماعي لبناء مصالح مشتركة على قاعدة حماية الأمن القومي العربي والاحترام المتبادل.. الأناضول
المصالح الاستراتيجية العربية ليست مع تأبيد العداء لإيران ولكن مع الذكاء الجماعي لبناء مصالح مشتركة على قاعدة حماية الأمن القومي العربي والاحترام المتبادل.. الأناضول
منذ اندلاع معركة طوفان الأقصى يوم السابع من أكتوبر 2023 لم تتوقف حملات الدعاية الهادفة إلى تعميق الهوة بين الشيعة والسنة ومحاولة التشكيك في ولاء إيران وحزب الله للقضية الفلسطينية والسعي الحثيث لتعميق الانقسام بين النخب العربية والإسلامية عبر تحليلات سياسية إيديولوجية ومذهبية عاجزة عن التحرر من النظرة الطائفية، ومغرقة في التعصب الفكري، وغير قادرة على امتلاك رؤية متوازنة تنطلق من اعتبار وحدة الأمة الإسلامية عنصر قوة في مواجهة عدوها الأكبر، دون أن تلغي الاختلافات الفرعية التي تغني خريطة العالم الإسلامي ولا تتعارض مع حتمية تشكيل الكتلة الحرجة الضرورية لأي أمة تريد أن تكون لها الكلمة في نظام دولي لا يعترف إلا بالأقوياء.

لم يشفع لحزب الله الثمن الكبير الذي أداه مقابل موقفه الشجاع بإسناد معركة طوفان الأقصى، واستمراره على هذا الموقف رغم اغتيال أمينه العام السيد حسن نصر الله، ولم يشفع لإيران صواريخها الباليستية التي أشعلت سماء تل أبيب ولا مسيراتها الحربية التي استهدفت قواعد عسكرية وألحقت خسائر كبيرة بالعدو، في استمرار حملات التشويش والتشكيك، إلى درجة أن أحد المحسوبين على التيار السلفي في المغرب قال بتحريم التظاهر فقط لأن بعض المتظاهرين احتفوا بصور السيد حسن نصر الله واعتبروه شهيدا..

ما لا يعرفه الكثيرون أن بعض علماء الشيعة، وقبل الثورة الإسلامية بإيران، قاموا بإصدار فتاوي تجيز للمؤمنين دفع الخمس والزكوات للمقاومة الفلسطينية وللشعب الفلسطيني المنكوب، وبعد حرب 1967 اعتبر الإمام الخميني أن العدو ليس إسرائيل وحدها، بل والولايات المتحدة والغرب أيضا، نتيجة دعمهم دولة الاحتلال، وأصدر فتوى تعتبر أن العلاقات مع إسرائيل وبيع الأسلحة والنفط لها "حرام شرعا ومخالفة صريحة للإسلام".
المقصود بـ: "نحن" في هذه المقالة نحن العرب، وتحديدا النخبة المهمومة بالقضية الفلسطينية والتي تؤمن بأن عملية طوفان الأقصى تمثل منعطفا تاريخيا كبيرا، ومقدمة لتحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني الغاصب، وهي نخبة تتشكل من تيارات سياسية وإيديولوجية مختلفة، بعضها لايزال يطرح بنوع من التشكيك المشروع بعض الأسئلة المتعلقة بالدور الإيراني في المرحلة الراهنة، وهو ما يدعونا لاستدعاء الوعي التاريخي لوضع العلاقة في إطارها الصحيح.

اضطراب الوعي التاريخي.. محاولة لفهم بعض أسباب الانقسام

أسباب هذا الانقسام كثيرة ومتعددة، من بينها ضعف منسوب الوعي السياسي لدى مختلف مكونات الأمة وضعف تمرسها على الممارسة السياسية وسط أنظمة عربية غارقة في السلطوية، لكن الضعف الأكبر الذي ينبغي الانتباه إليه هو: ضعف الوعي التاريخي، أو بصفة أدق اضطراب الوعي التاريخي في فهم علاقتنا بإيران، وضعف القدرة على امتلاك فهم مواقف إيران ووضعها في سياقاتها التاريخية والسياسية المختلفة، والتمييز فيها بين المبدئي والبراغماتي وبين الاستراتيجي والتكتيكي، بين ما تنطلق فيه من مبادئ راسخة وبين ما تمليه مستلزمات التكيف مع تعقيدات السياسة الدولية والانضباط لقواعدها الضمنية المستحكمة في العلاقات الدولية.

دون أن نهمل بعض السرديات السلفية التي تغذيها الدعاية الصهيونية والتي تحاول أن تجعل من إيران "الشيعية" الخطر الأكبر تجاه الشعوب العربية "السنية"، والتي تلتقي بشكل موضوعي وصريح مع خطابات الناطق باسم الجيش الإسرائيلي الذي يستجمع طاقته المعرفية للاستشهاد بأقوال "علماء السنة" وتحذيراتهم من الشيعة ونعتهم بأقبح النعوت..

ودون أن ننسى مواقف بعض المشايخ من التيار السلفي الذين تحولوا فجأة إلى مناصرين للثورة السورية مذكرين عامة الناس ب"جرائم حزب الله وإيران" في سوريا سنة 2012، رغم أن فتاويهم الصريحة بعدم جواز الخروج عن الحاكم هي المعتمدة في بلدانهم الأصلية، لكنهم ثوريين جدا في الحالة السورية..

وهو ما أدى إلى شيوع حالة من الاضطراب الكبير في الوعي التاريخي بأهمية إيران ودورها في دعم القضية الفلسطينية..

العلاقات الإيرانية ـ الإسرائيلية تعود إلى عهد الشاه محمد رضا بهلوي، الذي كان من الداعمين والحلفاء الأساسيين لـ "إسرائيل" في المنطقة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ويمتلك جهاز المخابرات المتطور (السافاك) الذي تأسس بدعم كبير من المخابرات الأمريكية، ووقف الشاه إلى جانب الكيان المحتل في حرب أكتوبر 1973 حينما قرر العرب استخدام سلاح النفط ومنع تصديره للأسواق الغربية، حيث رفضت إيران آنذاك منع تصدير النفط لواشنطن والدول الغربية.

بعد حرب أكتوبر 1973، رفضت إيران الدخول في حلف منع تصدير النفط العربي للغرب، وذلك بسبب علاقتها الممتدة مع واشنطن والأسواق الغربية.

ما لا يعرفه الكثيرون أن بعض علماء الشيعة، وقبل الثورة الإسلامية بإيران، قاموا بإصدار فتاوي تجيز للمؤمنين دفع الخمس والزكوات للمقاومة الفلسطينية وللشعب الفلسطيني المنكوب، وبعد حرب 1967 اعتبر الإمام الخميني أن العدو ليس إسرائيل وحدها، بل والولايات المتحدة والغرب أيضا، نتيجة دعمهم دولة الاحتلال، وأصدر فتوى تعتبر أن العلاقات مع إسرائيل وبيع الأسلحة والنفط لها "حرام شرعا ومخالفة صريحة للإسلام".

كما أكَّد مرارا أن الشاه وإسرائيل يقفان في صف واحد، وأن معاداة أحدهما تعني بالضرورة العداء للآخر.

وفي سنة 1979 حينما قامت الثورة الإسلامية قرر الخميني قطع العلاقات مع "إسرائيل" وقرر تحويل السفارة الإسرائيلية إلى مقر للسفارة الفلسطينية وكان الراحل ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، أول شخصية سياسية تزور إيران بعد نجاح الثورة للقاء الخميني وتهنئته بنجاح الثورة ثم أعلنت إيران آخر جمعة من شهر رمضان كل عام يوما لإحياء ذكرى القدس.

تحرير فلسطين من مبادئ الثورة في إيران والتخلي عنها يمس بشرعية النظام..

من خلال ما سبق، يتضح أن تحرير القدس ودعم القضية الفلسطينية، أصبح من أهم شعارات الثورة الإيرانية وجزءا من شرعية الدولة هناك، مما يعني أن التفريط في فلسطين يعني التفريط في أحد المبادئ الأساسية للثورة، وهو ما يخدش في شرعية النظام ويمس بمصداقيته.

حينما تعترف المقاومة الفلسطينية بالدعم الإيراني وتشكره، وهي مقاومة "على مذهب أهل السنة والجماعة" فإن الموقف يتطلب شيئا من التواضع وعدم المزايدة على هذه المقاومة وعلى نظرتها لخريطة الصراع الذي تخوضه على الأرض، وهي المقاومة التي نجحت في إحياء القضية الفلسطينية ووضعها في قلب الضمير العالمي بعدما كادت ان تعصف بها صفقة القرن المعلومة.
أولا، ينبغي الاعتراف بأن نظام الثورة الإسلامية أسقط نظاما مواليا للكيان الصهيوني وجعل من القضية الفلسطينية مبدأ من مبادئ الثورة، وهو المبدأ الذي لازال يؤطّر تيارا سياسيا أساسيا من أعمدة النظام الإيراني. هذه القناعة من الناحية التاريخية، كانت سابقة على وجود حركة حماس وعلى وجود حزب الله، وهو ما ينبغي التنبيه إليه لتوضيح الصورة..

ثانيا، ينبغي الاعتراف بأن هذا التحول كان ملموسا عن طريق قطع العلاقات مع دولة الاحتلال ومنح سفارتها السابقة لحركة التحرر الفلسطينية الذي كان يقودها آنذاك الراحل ياسر عرفات، وهذه أكبر خدمة للقضية الفلسطينية، وهو نفس الدعم الذي يقدم اليوم للمقاومة الفلسطينية بعدما تخلت السلطة الفلسطينية عن الكفاح المسلح انضباطا لاتفاق أوسلو التي سقط وسقطت معه الكثير من الأوهام..

ثالثا، حينما تعترف المقاومة الفلسطينية بالدعم الإيراني وتشكره، وهي مقاومة "على مذهب أهل السنة والجماعة" فإن الموقف يتطلب شيئا من التواضع وعدم المزايدة على هذه المقاومة وعلى نظرتها لخريطة الصراع الذي تخوضه على الأرض، وهي المقاومة التي نجحت في إحياء القضية الفلسطينية ووضعها في قلب الضمير العالمي بعدما كادت ان تعصف بها صفقة القرن المعلومة.

رابعا، إن العداء الصهيوني لإيران لا يحتاج إلى دليل، بل هناك طموحات صهيونية توسعية اتجاهها، ففي مقالة نشرها بنيامين نتانياهو بمجلة اونين الأميركية في 10 مايو 2018، أعلن فيها أن الوقت قد حان ليعيش شعبه مرة أخرى على أرض أجداده ، والعودة إلى وطنهم القديم إيران " معتبرا أن أرض إيران كانت جزءًا من الدولة اليهودية المستقلة ونحن نناشد المجتمع الدولي بالعمل معنا لضمان عودتها".

مضيفا: "أن إسرائيل مستعدة لاستخدام القوة العسكرية إذا لزم الأمر لإعادة احتلال كل _636,400 ميل مربع_ من إيران الحالية التي كانت مدرجة تاريخيًا في الأرض الموعودة التي مُنحت للشعب اليهودي بموجب تفويض توراتي" (انظر: " https://theonion.com/netanyahu-begins-calling-for-israeli-return-to-ancient-1825925581/)

خامسا، ينبغي الاعتراف بأن إيران لها رؤية إقليمية، البعض يعتبرها توسعية، تشتغل عليها بذكاء.

هذا المشروع الإقليمي جاء من تواطؤ الدول العربية مع صدام حسين إبان حرب الخليج الأولى حيث كان صدام وكيلا عن دول الخليج وعن باقي الدول العربية لإجهاض الثورة باسم الدرع السني العربي ضد المخلب الفارسي الشيعي، وهنا من الطبيعي أن نظرية المجال الحيوي ستفرض نفسها على صانع القرار الإيراني ليشتغل بمنطق إضعاف أو إشغال دول الجوار عنها، وهو ما ينبغي أن يفرض على الدول العربية امتلاك القدرة على بناء استراتيجية قادرة على منافسة مفهوم "المنطقة القوية" الذي تدعو له طهران، فالضعف الاستراتيجي الذي تعيشه دول الجوار الإيراني هو ضعف قديم تسببت فيه أنظمة الفساد والاستبداد قبل كل شيء، فاليمن قبل الحوثيين وسوريا قبل "الربيع الديموقراطي " عانتا من التخلف السياسي والتنموي، باستثناء عراق صدام الذي ينبغي الاعتراف بأنه تخلف كثيرا بعد إسقاط النظام البعثي على يد أمريكا، وطبعا استفادت إيران من هذا السقوط وعملت على تصفية حسابات قديمة معه..

وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى الموقف الأخير لدول الخليج العربية (الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمملكة العربية السعودية وقطر والكويت) المعبر عنها بمناسبة الزيارة الأخيرة للرئيس الإيراني مسعود بزشكيان للدوحة مباشرة بعد الضربة الإيرانية للكيان المحتل، حيث أكدت أنها "ستكون على الحياد في الصراع بين طهران وإسرائيل"، وأنها لن تسمح للولايات المتحدة باستخدام قواعدها العسكرية الموجودة على أراضيهم للاعتداء على إيران.

ومن الملفت، الإشارة إلى موقف المملكة العربية السعودية التي عبرت على لسان وزير خارجيتها بأنها تسعى "إلى إغلاق صفحة الخلافات بين البلدين إلى الأبد، والعمل على حل قضايانا وتوسيع علاقاتنا كدولتين صديقتين وشقيقتين"، وأشار إلى الوضع "الحساس والحرج للغاية" في المنطقة بسبب "اعتداءات" إسرائيل على غزة ولبنان ومحاولاتها توسيع الصراع في المنطقة، ومؤكداً أن السعودية تثق في حكمة إيران وفطنتها في إدارة الوضع والمساهمة في استعادة الهدوء والسلام في المنطقة.

إن هذه المواقف تتناقض بشكل صريح مع المشروع الأميركي –الإسرائيلي الذي يهدف إلى إنشاء تحالف عسكري شرق أوسطي يضم دول الخليج و"إسرائيل" وأمريكا إلى جانب مصر والأردن، وهو الحلم الذي اشتغلت عليه إدارة دونالد ترامب، ويمكن القول بأن توقفه يعتبر من النتائج الاستراتيجية الكبرى لعملية طوفان الأقصى المجيدة.

وفي الأخير:

لقد حصلت تغيرات مهمة قبل الطوفان، أبرزها الاتفاق السعودي الإيراني وعودة العلاقات بين ايران وجميع الدول العربية باستثناء المغرب والبحرين (البحرين في الطريق بوساطة سعودية).

وهو ما يدعونا إلى الأمل في العقل الاستراتيجي العربي الذي ينبغي أن يعي بأن مصالحه الاستراتيجية ليست مع تأبيد العداء لإيران ولكن مع الذكاء الجماعي لبناء مصالح مشتركة على قاعدة حماية الأمن القومي العربي والاحترام المتبادل، وهو ما يفرض على الدول العربية التي لازالت تحتفظ بعلاقات دبلوماسية مع الكيان المحتل، أن تراجع هذه العلاقة دعما للقضية الفلسطينية وخدمة لمصالحها الحيوية التي لا يمكن أن تكون مع كيان غاصب كشف على وجهه الحقيقي في الحرب الأخيرة والتي لا يبدو أنه قادر على الخروج منها بسلام.
التعليقات (0)