هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بعد أن بلغت وثيقة قرطاج في نسختها الثانية مرحلة الأزمة المفتوحة بين أهم مكوناتها (وأساسا بين رئيس الحكومة يوسف الشاهد والاتحاد العام التونسي للشغل الذي أصبح حليفا موضوعيا - بصرف النظر عن مقاصده - لجناح ابن رئيس الجمهورية حافظ قائد السبسي)، وبعد أن أصرّ رئيس الحكومة على الدفع بالصراع المفتوح بينه وبين نجل الرئيس إلى مرحلة "كسر العظام" والمواجهة "الوجودية" القائمة على منطق النفي المتبادل واستحالة العمل معا في حكومة "الوحدة الوطنية" وفي حركة نداء تونس على حد سواء، بعد ذلك كله جاءت إقالة وزير الداخلية لطفي براهم لتزيد من ضبابية الوضع السياسي التونسي.
ظاهريا، تبدو هذه الإقالة في هذا الظرف بالذات وكأنها ضرب من "النشاز" في النغمة الأساسية لطبول الحرب؛ التي تُقرع في القصبة ضد نجل الرئيس و"رجاله" في الحزب وأجهزة الدولة. فرغم أن وزير الداخلية المقال محسوب على نجل الرئيس وعلى بعض الأطراف النافذة الأخرى، خاصة منها رجل أعمال معروف مُلقّب بـ"صانع الرؤساء"، وهو رجل ظل كانت له - وما زالت - اليد الطولى في ما يُسمّى بـ"الدولة العميقة"، رغم ذلك كله فقد كان من المنتظر حصول أمرين لا ثالث لهما:
1- رحيل الحكومة كلها إذا ما عجز رئيسها عن تليين مواقف اتحاد الشغل، أو عجز عن المحافظة على الغطاء السياسي الذي توفره له حركة النهضة وبعض المغاضبين لنجل الرئيس في حركة نداء تونس، وأساسا المحافظة على دعم الدول الأروبية الكبرى والولايات المتحدة.. هذه الدول التي وعدته بتقديم الدعم بعد تعهده بالمضي قدما في "الإصلاحات الكبرى" وفي شروط "اتفاق التبادل الحر والموسع" مع الاتحاد الأوروبي. ولا يخفى على أحد أنّ تونس مثل كل الدول التابعة والمتخلفة لا تمتلك مقومات سيادتها، ولذلك فهي تشهد تدخلا، سافرا أحيانا وخفيا أحيانا أخرى، في بناء "قراراتها السيادية"، كما لا يخفى على أحد أنّ الدعم الغربي لرئيس الوزراء - أو لغيره - هو أمر مرتبط أساسا بتثبيت العلاقات اللامتكافئة بينه وبين تونس، وترسيخ التبعية في مختلف أشكالها الاقتصادية والثقافية.
2- إجراء تعديل وزاري جزئي قد يشمل وزارات السيادة بما فيها وزارة الداخلية وقد لا يشملها بالضرورة. ولا شك في أنّ إقالة وزير الداخلية خارج هذا التعديل الجزئي هي أمر ذو دلالات هامة من الناحية السياسية، إذ هو قد يعني أولا أنه لا وجود للقيام بهذا التعديل أصلا، وهو ما قد يُفهم منه أن رئيس الحكومة قد تجاوز مرحلة الضعف وأصبح قادرا على إدارة حكومته بعيدا عن بعض "الإملاءات" التي كانت ترفع سقف مطالبها عاليا (مثل سقف رحيل رئيس الحكومة) لتضطره إلى القيام بما هو أدنى (أي تعديل كبير على تركيبة الحكومة). كما أنّ تعيين وزير العدل غازي الجريبي وزيرا للداخلية بالنيابة؛ يعني أنّ أصحاب القرار (أو مكوّنات المركّب الجهوي- المالي- الأمني المتحكم في تونس منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا) قد قرروا التضحية بأحد رجالهم، لكنهم لم يتفقوا بعد على من يعوّضه.
الإقالة أكدت وجود تحالف استراتيجي حقيقي، يتجاوز التحالف التكتيكي والمرحلي، بين مكوّنات اليسار الثقافي، وبين "صقور" المنظومة الحاكمة، خاصة منهم أولئك الذين قد يُعلنون الانقلاب على المسار الديمقراطي
تحليل الواقع السلطوي في تونس يستدعي استحضار "البنية الجهوية للسلطة" باعتبارها أحد متغيرات التحليل، وإن لم يكن هو المتغير الأهم بالضرورة
رحيل لطفي براهم هو مجرد تعبير عن صراعات داخلية داخل "المنظومة الحاكمة"، ولا علاقة له بانتظارات المواطنين أو بطبيعة أدائه خلال مسيرته الأمنية
لقد سُقنا الملاحظات السابقة لنمهّد للحقيقة السياسية التالية: إن رحيل لطفي براهم هو مجرد تعبير عن صراعات داخلية داخل "المنظومة الحاكمة"، ولا علاقة له بانتظارات المواطنين أو بطبيعة أدائه خلال مسيرته الأمنية. ولذلك، فإن هذه الإقالة قد تكون جزءا من الحل، لكن من منظور رهانات ومصالح المتنفذين داخل المركب "المالي- الأمني- الجهوي"؛ الذي كان وما زال هو المتحكم الحقيقي في دواليب الدولة، كما قد تكون تلك الإقالة حلاّ من منظور حلفاء هذا المركّب والوافدين الجدد عليه (أي حركة النهضة)، بحكم ارتباط الوزير المقال ببعض السيناريوهات الانقلابية المحتملة، ولكنّ هذه الإقالة تبقى أساسا مجرد مظهر من مظاهر الأزمة لأنها تضعنا أمام الواقع التالي: إنّ من يصنع القرار هو أساسا طرف لا علاقة له بالثورة ولا بالأيديولوجيات والسرديات الكبرى، أما من يتفاعل معه، من منظور أيديولوجي اختزالي، فهو طرف لا علاقة له بصنع القرار، ولكنه طرف قد رضي بأن يكون مجرد "شارح" لتلك القرارات، سواء أكان شرحه تثمينا أم مهاجمة لها.
رغم أنه لا أحد ينكر تحول النهضة تدريجيا إلى جزء من المنظومة الحاكمة، فإنّ اختزال الأزمة البنيوية فيها أو شيطنتها هو استراتيجية واعية لتخفيف الضغط عن نداء تونس، ولمنع أي تغير حقيقي في بنية السلطة
ولا شك في أنّ استمرار أغلب القوى اليسارية في اعتماد هذا المنطق والقبول بهذه الوظيفة؛ يحرمان التونسيين جميعا من أمرين على غاية الأهمية، وهما أمران لا يمكن تحققهما إلا بمشاركة عقل يساري وطني حقيقي: أولا فهم حقيقة الصراع داخل السلطة وحولها، وفهم طبيعة الرهانات الاقتصادية والاجتماعية المتحكمة في مختلف الفاعلين، وثانيا بناء "كتلة تاريخية" تتأسس على المشترك المواطني وتتجاوز الإشكال الهوياتي الذي هو في نهاية التحليل؛ أعظم حليف للنواة الصلبة للمنظومة الحاكمة في تونس بلحظتيها الدستورية والتجمعية.
لن تكون إقالة وزير أو تعيين غيره إلا شكلا من أشكال البحث عن توازنات داخل المنظومة الحاكمة، ولا علاقة لها بأي "شرح" مؤدلج
قراءة في مواقف السلطة و"القوى الديمقراطية" التونسية من الثورة السورية